مقالات
القومية العربية بين البُعد الروحي والتجلي العضوي: قراءة فلسفية في فكر المؤسس وتجلياته المعاصرة بقلم أ. ماجد الغوث-الهدف السودانية –
بقلم أ. ماجد الغوث-الهدف السودانية -

القومية العربية بين البُعد الروحي والتجلي العضوي: قراءة فلسفية في فكر المؤسس وتجلياته المعاصرة
بقلم أ. ماجد الغوث-الهدف السودانية –
مقدمة: ليست القومية العربية ـ في جوهرها العميق ـ مجرد مشروع سياسي أو برنامج أيديولوجي قابل للشرح بالمفردات الإجرائية للدولة الحديثة، كما يراها البعض، ولا هي تعبير عاطفي غائم عن الحنين إلى ماضٍ أمجاده موهومة، كما يظن خصومها. إنها، كما يتبدى في فكر القائد المؤسس ميشيل عفلق، بنية مزدوجة تتشابك فيها الروح بالتاريخ، والرمز بالفعل، والانتماء بالشهادة. هذه القومية، في صيغتها الحيّة، تخرج من حدود النظريات الجافة لتصبح نسقًا أنطولوجيًا يعيد تعريف علاقة الإنسان العربي بذاته، بأمته، وبالعالم.
الأستاذ ميشيل عفلق لم يكتب نظرية مغلقة، بل أطلق حدسًا تاريخيًا، يربط الوجدان الجمعي بالمصير القومي، ويصوغ مشروعًا للتحرر تتجاذبه ثلاثية: الوحدة، الحرية، الاشتراكية. وبين الباطن الروحي والمظهر العضوي، تتكثف التجربة القومية ككلمة حيّة في زمن تفتّت المعاني.
أولًا: البُعد الباطني للقومية – حين تصير الهوية قدرًا وشوقًا:
في كتابه( في سبيل البعث) لا يقدم الأستاذ ميشيل عفلق تعريفًا تقنيًا للقومية، بل يستدعيها كما تُستدعى الصلاة أو الأغنية الشعبية: من الأعماق. يرى أن القومية ليست شعارًا خارجيًا، بل تجربة داخلية تلامس الوجدان قبل أن تُصاغ في البرامج. هي ليست مسألة انتماء جغرافي أو تعاقد سياسي، بل (حبٌّ) و(قدر)، تذوب فيهما الحدود، وتتحول الأمة إلى كينونة حيّة تتنفس من خلال أفرادها كما يتنفس الجسد من شرايينه.
الأستاذ ميشيل عفلق يغلق باب الجدل التجريدي حول الهوية، لأنه كان يرى أن الأمة لا تُعرّف، بل تُعاش. من هنا، فالقومية ـ عنده ـ ليست كيانًا خارج الإنسان، بل هي إدراكه العميق بأنه ليس فردًا معزولًا، بل صدى لوعي جمعي يتجاوز اللحظة ويُقيم في التاريخ والرمز واللغة.
الروح القومية في فكره تشبه (الروح المطلقة) عند هيغل، لكنها لا تسكن في التجريد بل تنبض في لحم التجربة العربية. ليست جوهرًا مفارقًا، بل طاقة وجدانية تنبثق من الألم الجماعي، من الحنين، من لحظات الكرامة المهدورة، من حلم الوحدة المستحيل. وهاهنا يكمن البعد الأنطولوجي للفكرة: نحن لا نؤمن بالقومية لأنها مفيدة، بل لأنها الحقيقة الوحيدة التي تمنح وجودنا معنى.
ثانيًا: القومية العضوية – تجلي الروح في الجمال والمقاومة:
في أحد أكثر الإسهامات الفكرية عمقاً حول مفهوم القومية العضوية، قدّم الأستاذ طارق عبد اللطيف أبوعكرمة قراءة تأسيسية رفيعة المستوى لهذا المفهوم، عبر ورقته الموسومة )في جوهر الأمة: القومية العضوية كمفهوم، وعي، وضرورة تاريخية( لم يكتف أبوعكرمة بتوصيف القومية كهوية سياسية أو ثقافية، بل صاغها ككائن أنطولوجي حيّ، يتخلّق من أعماق الشعور الجمعي، وينبع لا من هندسة العقل، بل من “الوعي العضوي” الذي يسكن الذات ويشكلها.
يرى الاستاذ أبوعكرمة أن القومية العضوية ليست ردّ فعل على الخطر أو وعياً مؤقتاً بالهوية، بل هي شرط وجودي لإنسان لا يعيش في عزلة أنانية، بل كتجلٍّ لذات جماعية تتنفس عبره، وتحلم وتتألم من خلاله. الأمة في هذا التصور ليست بناءً سياسيًا ولا اتفاقًا قانونيًا، بل تجربة شعورية متجذرة في اللغة، والرمز، والحنين، والأسطورة، والطموح، والهزيمة، والطقوس اليومية التي يعيشها الإنسان قبل أن يُنظّر لها.
وهنا تتلاقى أفكار الاستاذ أبوعكرمة مع ما عبر عنه الأستاذ ميشيل عفلق حول البُعد الروحي للقومية: إذ تصبح القومية في كليهما نشيدًا داخليًا للجماعة، لا وثيقة خارجية تُوقّع. إنّها، وفقًا لأبوعكرمة، ليست مجرد أحد “أنماط القومية” الحديثة، بل هي جوهرها الأصلي قبل أن تُبتذل في الأنظمة والشعارات، أو تُختزل في الدولة والأجهزة.
وفي هذا الإطار، تتحوّل الفنون والمقاومة الشعبية من تعبيرات ثقافية إلى تجليات عضوية لهوية الأمة. ففي حجر الطفل الفلسطيني، وفي صور محمد الدرة، وصور الشهيد صدام، وصور جمال عبد الناصر في تشييعه، وشعارات ثورة ديسمبر في السودان في صور الكنداكة، وفي مراثي درويش، نلمس “وعيًا جماليًا” يعيد تعريف القومية لا كأيديولوجيا، بل كحالة شعورية وفنية تشحن الذاكرة وتستدعي الوجود من عمقه الرمزي.
إن القومية العضوية، كما يراها الاستاذ أبوعكرمة، لا تستمد مشروعيتها من الدولة أو السلطة، بل من الإنسان الذي يشعر أنه امتداد لجماعةٍ تسكنه مثلما يسكنها. من هنا، فإن انهيار الأمم لا يبدأ من سقوط الحكومات بل من تفكك هذا الوعي العضوي: حين تُفكك اللغة، وتُغتال الرموز، ويُخنق الحس الجماعي، يتحول الفرد إلى مجرد رقم في منظومة الاستهلاك، وتتحول الأمة إلى أشلاء ثقافية بلا عصب.
إنّ التنظير للقومية، من دون اتصال بهذا البعد العضوي، يصبح – كما يحذّر الاستاذ أبوعكرمة – “بيروقراطية ثقافية” تفتقر إلى حرارة الوجود، وتفشل في استنهاض الإنسان. ولهذا، فإن القومية العضوية تطرح نفسها اليوم ليس كمفهوم فكري فقط، بل كعلاج نفسي جماعي، وكإعادة تأسيس للحس التاريخي والمعنى، في زمنٍ يشيّئ الإنسان ويفكّك انتماءه.
وفي ضوء هذا الإسهام، يصبح واضحًا أن القومية العضوية هي وعي تاريخي–روحي مشبع بالوجدانية، وليست فقط بُنية سياسية أو هوية ثقافية. هي ما يحول “الانتماء” من شعار إلى خبرة وجودية، ويجعل من كل فردٍ عربي شاهدًا حيًا على كينونة تتجاوز الفرد، وتُعاش في الذكرى، والوجدان، واللغة، والحلم، والمقاومة.
إذا كانت الروح القومية تسكن في الوجدان، فإن تجلّياتها العضوية تظهر في الفن، في اللغة، في الطقوس اليومية التي يكرّسها الناس بلا تنظير. الشعر، الرسم، أسماء الشوارع، رسومات الجدران، كلها ليست ممارسات جمالية عابرة، بل هي أفعال مقاومة، وتثبيت للهوية الجمعية في وجه محوٍ مستمر.
في أعمال ناجي العلي، لا نشاهد خطوطًا كاريكاتيرية فقط، بل نرى خريطة نفسية للألم الفلسطيني. وفي قصائد محمود درويش، لا تُنشد القصيدة على مقاعد الأمسيات، بل تُرتل كأناشيد وطنية على شفاه الخائفين. هذه التعبيرات تُنتج ما يمكن تسميته بـ “المعرفة الجمالية للقومية”، حيث تتماهى الهوية مع الصورة، والصوت مع الذكرى.
وحتى في الطقوس اليومية: تسمية حيّ باسم القادسية، أو مدرسة باسم شهيد، أو زقاق باسم القدس، ليست مجرد قرارات إدارية، بل لحظات استعادة للذات الجمعية. وكأن الأمة ـ حين تضع أسماءها على الجدران ـ تقول: “أنا هنا، رغم أنف الخرائط”.
تجارب قومية أخرى تؤكد هذا البُعد العضوي. فالقومية الهندية عند نيهرو لم تنفصل عن الثقافة الروحية للهند، كما أن القومية اللاتينية في مشروع بوليفار جمعت بين التحرر والمصير المشترك. ومالك بن نبي، في مشروعه النهضوي، أعاد تعريف الأمة كفكرة حركية تتجاوز التقسيمات القطرية نحو وحدة وجدانية.
ثالثًا: النظرية والتجربة – حين تنفصل القومية عن ناسها: الثالوث لمبادئ حزب البعث : “الوحدة، الحرية، الاشتراكية” لم يكن مجرد تنسيق شعاراتي، بل محاولة لجسر الهوة بين ما هو وجداني وما هو سياسي. غير أن التجربة العربية القومية تعثرت، لا بسبب خطأ في النظرية، بل لانفصالها عن وجدان الناس.
لقد تحوّلت القومية، في بعض التجارب الرسمية، إلى بيروقراطية فارغة، وانحرفت عن بعدها الثقافي الحيّ، لتُختزل في شعارات لا تنبض بالحياة. صار المثقف القومي موظفًا، لا شاهدًا، وانفصل التنظيم القومي عن الشارع، وعن العائلة، عن الأغنية، عن الحلم.
التمييز بين القومية الثقافية (كمجال للهوية والرمز) والقومية السياسية (كمشروع حكم) لم يكن واضحًا بما يكفي، ولهذا جرى الخلط بين الأمة كفكرة، والدولة كآلة. والنتيجة: مشروع قومي بلا روح، وخطاب وحدوي لا يحرك قلبًا واحدًا.
وهنا، لا يكون الحلّ في التنظير أكثر، بل في إعادة توصيل الفكرة بمصادرها الأولى: الذاكرة، الألم، الإبداع، والمقاومة اليومية. لا تحتاج الأمة إلى من يُنظّر لها، بل إلى من يُنصت لنبضها.
خاتمة:
في زمن التفتت، والعولمة القاسية، وفقدان المعنى، تبدو العودة إلى فكر الأستاذ ميشيل عفلق ضرورة لا بوصفه نصًا مقدسًا، بل كإرث حيّ. إن القومية العضوية ليست نوستالجيا للماضي، بل إرادة لمستقبل يتأسس على جذور روحية وثقافية عميقة. لا يكفي أن نعيد تكرار الشعارات، بل يجب أن نعيد خلقها من داخل سياقاتنا الجديدة.
كيف تبني الأجيال الجديدة قوميتها؟ ليس في قاعات الأحزاب وحدها، بل في الأغنية، في الرسم، في مسيرة احتجاج، في طفل يرسم خارطة بلاده على دفتر المدرسة، في اللغة التي تتشبث بظلالها أمام سطوة التفاهة.
القومية هي أن تحبّ أمتك كما تحبّ أمك، لا لأنك اخترتها، بل لأنها خُلقت فيك، وتُولد فيك كل يوم. هي أن تشعر أن للتراب ذاكرة، وأن للغة عطرًا، وأن للماضي وظيفة في صياغة الغد.
القومية ليست حنينًا، بل موقف وجودي. ليست خطابًا سياسيًا، بل صمتٌ جمعيٌّ يُقال حين لا تعود الكلمات تكفي. هي نشيدٌ داخلي، لا يحتاج لميكروفون، يكفي أن يُغنّى في القلب.