بيان الأزهر والدبلوماسية العربية المُدجَّنة

بيان الأزهر والدبلوماسية العربية المُدجَّنة
نزار السهلي
التبرؤ المصري من بيان مؤسسة الأزهر بذريعة تناقضه مع المسار الذي تسلكه السياسة المصرية، يعني أن إسرائيل فهمت، وأفهمت العرب والفلسطينيين والعالم، أن كل عبارات التحذير من اللجوء لارتكاب الجرائم، على أنه ينذر بتصعيد ومخاطر على
نعيش كفلسطينيين وعرب، واحدة من أصعب مراحل التاريخ، ونحن نراقب واقعًا شديد القسوة والخطورة على الساحة الفلسطينية، فالمشاهد والأخبار الواردة من غزّة على مدار 22 شهرًا، تداهمنا من كل حدب وصوب، في وقائع استمرار ارتكاب إسرائيل جرائم الجوع والحصار والإبادة الجماعية، وفيها ما يكفي لتصدم الكون كلّه. وفي الوقت ذاته، لم تحد العين عن التجوال في مدن الضفة الفلسطينية، وهي ترى المؤسسة الصهيونية تطلق أنياب مستعمريها المدججين بالسلاح والغطرسة والفاشية، لارتكاب الجرائم بالأرض والإنسان. هذه العربدة المستمرة التي يُراد منها إسرائيليًا وأميركيًا، تنصيب إسرائيل كقوة “عظمى” على المنطقة، وهي تكاد تعلن انتصارها ليس على الفلسطينيين وحسب، بل على العرب والعالم بكل قوانينه وشرائعه.
ما يجري في أرض فلسطين، من غزّة إلى الضفة والقدس، وحتى داخل فلسطين المحتلة عام 1948، هو كارثة تتربّع فوق جرائم الإبادة. صدى كل ذلك في عالم عربي متفرّج على الجرائم، ومجتمع دولي منافق لدولة الإبادة، أنتج كارثة سياسية وأخلاقية وأمنية عربية. وإذا مرّ الإنسان للتعرف على هموم تشغل سياسة عربية رسمية، بموازاة العربدة والغطرسة والعدوان الإسرائيلي المتسع على جبهات عربية أيضًا، يجد أنها تنقاد بمنتهى الإذلال والهوان، وتخضع لتوجهات سياسة المستعمر ومن خلفه الإدارة الأميركية، فأعلى هموم السياسة العربية الإمساك بقبضة الأمن الداخلي للمجتمعات، وتركه مستباحًا للإسرائيلي، والهم الثاني رفع المقاطعة عن إسرائيل باستمرار العلاقة معها، والاستعداد لتطبيع جديد مع فاشيتها، والذي يعني مزيدًا من الخلخلة في النسيج السياسي العربي الذي يتقاذف قضيته المركزية من طرف ينبذها إلى آخر ينفيها عن نفسه، وآخر يقمعها بكل بؤس وشراسة.
فما الذي تخشاه إسرائيل اليوم من سياسة فلسطينية وعربية من المحيط للخليج ويجعلها تفكر ألف مرة بعدم مواصلة العدوان؟ لا شيء على الإطلاق. فهي استطاعت تجويع مليوني فلسطيني، بعد ارتكاب معظم الجرائم في العصر الحديث، وعلى مرأى ومسمع هذه السياسة تستبيح إسرائيل حدودها برًّا وبحرًا وجوًّا، وتتبنى خطابًا وسلوكًا فاشيًا يدعو صراحةً للإبادة والتطهير العرقي، وتستخدم لذلك نصوصًا توراتية وتلمودية، ويكون لهذا الطرح حاضنة أميركية تستفيض بالدفاع عن الرؤية الصهيونية. وباختصار، تُميَّز السياسة العربية بالسلبية القاتلة نحو القضية الفلسطينية وجرائم وعدوان الاحتلال، بصمت مطبق وعجز كلي ومخجل حتى في بيانات ومواقف إدانة الجرائم، يمنح المستعمر الوسيلة السافرة للتغطية عليها ومواصلتها.
هذه السلبية عمّقت الاختلال الفادح في ميزان القوة والتأثير، لصالح فاشية الاحتلال، وتستثمره إسرائيل في توسيع رقعة الجرائم في غزّة وكل فلسطين. فحتى بيان مؤسسة الأزهر الأخير على سبيل المثال، والمَسحوب فيما بعد، فقط لأنه يدعو “استصراخ أصحاب الضمائر الحيَّة من أحرارِ العالم وعقلائِه وحكمائِه وشرفائه ممَّن لا يزالون يتألمون من وَخزِ الضمير، ويؤمنون بحرمة المسؤولية الإنسانية، وبحقوق المستضعفين والمغلوبين على أمورهم وعلى أبسطِ حقوقهم في المساواة بغيرهم من بني الإنسان في حياةٍ آمنة وعيش كريم، من أجلِ تحركٍ عاجلٍ وفوريٍّ لإنقاذِ أهل غزّة من هذه المجاعة القاتلة”.
فهذا البيان لا يمكن مقارنته مع بيانات مقابلة من مؤسسات صهيونية رسمية في أعلى هرم السلطة، والتي تدعو صراحةً للإبادة والتطهير العرقي للفلسطينيين، وقتل كل الأطفال والنساء في غزّة واعتبارهم “حيوانات بشرية”، وإن تعذّر فمسحهم بقنبلة نووية، ولم يُسحبْ أي من هذه التصريحات باعتبارها تناقض خرافة وأكاذيب “الديمقراطية” الصهيونية. يكرّرها بن غفير وسموتريتش ونتنياهو عشرات المرات، وتقترن بفعل يومي في غزّة والضفة، لأنها تتوافق والسلوك الاستعماري للمؤسسة الصهيونية.
التبرؤ المصري من بيان مؤسسة الأزهر بذريعة تناقضه مع المسار الذي تسلكه السياسة المصرية، يعني أن إسرائيل فهمت، وأفهمت العرب والفلسطينيين والعالم، أن كل عبارات التحذير من اللجوء لارتكاب الجرائم، على أنه ينذر بتصعيد ومخاطر على المنطقة، له صدى وفهم مختلف في أروقة سياسة أميركية وغربية وعربية.
بيان الأزهر، لم يحمل النداء رقم (1) لتحريك الجيش للدفاع عن حدود مصر وسيادتها، ولا يدعو لمؤازرة عسكرية تدافع عن أشقائهم وتصدّ جرائم الاحتلال، بل حمل دعوة للقوى الفاعلة المؤثرة أن تبذل أقصى ما تستطيع لصدّ هذا الكيان الوحشي، وإرغامه على وقف عمليات القتل الممنهجة تجويعًا وقصفًا، وإدخال المساعدات الإنسانية والإغاثية بشكلٍ فوريٍّ، وفتح كل الطرق لعلاج المرضى والمصابين الذين تفاقمت حالتهم الصحية نتيجة استهداف الاحتلال للمستشفيات والمرافق الطبية، في انتهاك صارخ لكل الشرائع السماوية والمواثيق الدولية. البيان لا يحمل مضامين سياسية، لكنه يشير لتناقض العقل والضمير والأخلاق والإنسانية مع مشروع الإبادة الصهيونية والتطهير العرقي، وهو ما تعبّر عنه شعوب في شوارع غير عربية ولا تمتلك مرجعيات دينية ومشيخات تتحدث باسمها، وتُصدر بيانات، وتقيم حراكًا قويًّا ومؤثرًا على حكوماتها للضغط على الاحتلال، ومقاطعته ومحاكمته. وبالتالي لم تُصدر سلطات تلك البلدان ما يقول إن مثل هذا الفعل يتعارض مع سياسة الحكومات، لأنه قائم بالفعل على رفض هذه السياسات المنافقة للجرائم ويفضحها ويعريها، وتلك مسؤولية الحس الأخلاقي، الذي كان له تأثير على كثير من سياسات دول أوروبية ولاتينية من العلاقة مع الاحتلال، وأن مسائل الدفاع عن مطالب وقضايا نبيلة وعادلة ليست من نزعة الإنسان العربي، وفي ذلك أشياء من العبث واللامعقول، كأن العدالة حلمٌ لن يصله الفلسطيني عند من ينتمي إليه في الحضارة والتاريخ والجغرافيا، فهو ما زال في أروقة سياسة أمنية عربية مُدجَّنة، ناكر “للمعروف”، ومخرّب “إرهابي”، ومتآمر ومقوّض للنظام وعدو للحضارة. لذلك يبدو الصمت العربي المطبق أقرب ميلًا لعبارة يوآف غالانت وعميحاي وسموتريتش وبن غفير، من تبنّي بيان الأزهر.