غزة… المرآة التي تُعرّي إنسانيتنا

غزة… المرآة التي تُعرّي إنسانيتنا
الأستاذ الدكتور نوري حسين نور الهاشمي
غزة اليوم لا تنتظر بيانات التضامن الموسمية، ولا تحتاج إلى خطابات الخداع السياسي واللغو الإعلامي
الذي يُرصّع العجز بالأعذار. إنها لا تطلب كلمات تُنثر في المؤتمرات، ولا حناجر تخطب من خلف
الميكروفونات الفاخرة. غزة، بكل اختصار، لا تحتاج لأحدٍ يبرر تخاذله… تحتاج فقط لمن يشعر.
في غزة لا تُرتكب جريمة، بل تُرتكب سلسلة من الجرائم التي تجاوزت حدود اللغة والتوصيف. نحن أمام
إبادة موثقة، مدونة على الهواء، تبثها شاشات العالم بكل وضوح. رضعٌ تموت تحت الركام، نساء تستغيث
ولا مغيث، شيوخ يودّعون الحياة على قارعة الطريق، وآباء يحملون فلذات أكبادهم إلى قبور لا يجدون فيها
كفنًا. هذه مشاهد ليست من خيال الروائيين، بل من قلب الحقيقة التي تُعرض على مرأى ومسمع من عالمٍ فقدَ
الإحساس.
تسير الأمهات في شوارع الدمار، تبحث عن اسم طفلها بين القوائم، لا لتطمئن عليه، بل لتعرف: هل دُفن
بقطعة خبز في يده أم بجملة لم ينطقها بعد؟ وتلك الجملة المقطوعة تظلّ ترتجف في قلبها، تمامًا كما ترتجف
غزة تحت القصف.
الأنظمة؟ سقطت قبل أن تسقط القنابل. الخيانة لم تعد حالة شاذة، بل أصبحت إحدى ركائز "الحكمة"
السياسية الجديدة. بات التنصل عن فلسطين بندًا معلنًا في أجندات المؤتمرات، وأصبحت بيانات الشجب
تنتظر نسخًا جاهزة ما إن يُقصف حي جديد. أصبحت لغة الإدانات مكررة، لا تُسعف جائعًا، ولا تحقن دم
طفل، بل تغطي الخزي بستارٍ هشٍ من الكلمات.
لكن ما لم يكن في الحسبان، أن هذه الخيانة ستُعرض دون مواربة، وأن السقوط لم يعُد خلف الأبواب
المغلقة، بل أمام العدسات، بلغة لا تعرف الخجل. فجاء طوفان الأقصى، لا ليبدأ حربًا كما يدّعي
المتخاذلون، بل لينزع الأقنعة، ويكشف الطاولة بما عليها، ولمن عليها.
تريدون الحديث عن الحكمة؟ عن ضبط النفس؟ عن السيادة الوطنية؟ كل تلك المفردات سقطت أمام طفلٍ في
غزة يسأل أمّه:
"لماذا لا يصلني الخبز؟ لماذا الماء لا يصل إلى فمي؟ لماذا أبي لا يعود؟"
أسئلة لا تجيب عنها المؤتمرات، ولا تُسعفها بيانات مجلس الأمن، بل تحتاج لضمير يستفيق.
إن لم تكن تملك سلاحًا أو طائرة، فاكتب. إن لم تملك منصة أو منبرًا، فارفع يديك بالدعاء. إن لم تستطع أن
تكون في قلب الحدث، فكن في ضمير الحدث. أما أن تتحوّل إلى مدّاحٍ للانهزام، وأن تروّج لفلسفة الركون،
فتلك خيانة مضاعفة، تسقط بها لا كقائد ولا كسياسي، بل كإنسان.
من يتحدث اليوم عن من بدأ ومن لم يستشر، قد عزل نفسه عن التاريخ، لأن ما يجري في غزة ليس تمرينًا
سياسيًا ولا مفاوضات على طاولة، بل مجزرة مكتملة الأركان. غزة لا تسأل من معها ومن ضدها، بل
تصرخ في وجه كل صامت:
"أين إنسانيتك؟"
لقد تجاوزنا لحظة الانقسام، نحن اليوم أمام معركة وجود، معركة كرامة، معركة هوية. حين نموت ونحن
نرى طفلًا يموت جوعًا ولا نحرّك ساكنًا، فإننا ندفن ذواتنا قبل أن يُدفن هو. غزة لا تحتاج إلى شفقة، بل إلى
موقف. لا تنتظر حناجر المذيعين ولا نظريات المحللين. هي تطلب منّا أن نحيا لأجلها، لأن موتها يسبق
موتنا جميعًا.
وما نقدمه اليوم ليس تبرعًا لغزة، بل صدقة جارية عن أرواحنا التي نكاد نفقدها وسط ضجيج النفاق. نكتب
لغزة لنذكّر أنفسنا أننا ما زلنا أحياء. نصرخ لأجلها لنكسر صمتًا خنق الوجدان. نبكيها كي لا نجفّ تمامًا من
الداخل.
إننا نعيش اليوم لحظة اختيار… إما أن نكون أمة تستحق أن تُكتب في كتب التاريخ، أو أمة تُمحى دون حتى
أن يُشار إلى نهايتها. لحظة نقرر فيها: هل سنُسجَّل كأجيال وقفت في زمن الخذلان؟ أم أجيال خذلت زمنًا
كله كان في حالة وقوف.
لا تنتظروا الاجتياح… فهو قادم لا محالة. لا تنتظروا أن تُقرع أبوابكم… فبعد غزة، لا حواجز ولا فواصل.
العدو لا يرى فينا دولًا، بل فرائس موزعة بحدود وهمية. وإن كنتم تظنون أن الغرب سينقذكم، فأنتم
واهمون. الغرب لا ينقذ إلا مصالحه، وإن قرر حمايتكم، فبحدود جديدة يرسمها لكم هو، وفق مقاسات
صهيونية محضة، تُعيد صياغتكم ككيانات ضامنة لا أكثر، مسموح لها أن تحكم، ولكن ممنوع أن تحيا.
أما الجيوش؟ فهي أول ما سيتحرك ضد الشعوب إن هبّت، ولكنها أول ما سينهار حين تدرك أنها تقف ضد
أطفالها، لا ضد عدو. فالجندي حين يرى أمًا تبكي، ورضيعًا يحتضر، يُصاب بشلل الضمير، وينقلب على
قائده.
وإعلامهم؟ يا ويل إعلامهم. ما زال يعرض الأغاني والمسلسلات بينما تُقصف غزة. يروّج للأفلام ويخفي
الجثث. يصفق للمهرجانات، بينما تُقطع الكهرباء عن المستشفيات. إنه إعلام ماتت فيه المروءة، وتحلّل فيه
العقل. إعلام يضع البندقية في يد الجلاد، ثم يسأل الضحية لماذا ماتت!
لكن، لن يدوم خداعهم. الشعوب ترى، تُقارن، وتغلي. والبركان لا يهدأ إذا امتلأ بالحمم. والصمت، وإن
طال، لا يمنع الانفجار.
وختامًا، لا تقولوا: "غزة بحاجة إلى دعم"، بل قولوا:
"نحن بحاجة إلى غزة لنثبت أننا ما زلنا أحياء."
لأن غزة اليوم هي اختبار الإنسانية، واللحظة الفارقة بين من ما زال قلبه ينبض، ومن اختار أن يموت واقفًا
خلف شاشة صامتة.
غزة تنادينا… فهل نجيب؟
أم ننتظر أن تأتينا أقدارنا وقد صمّتنا خيانتنا؟