مقالات

إلى من رحلوا وتركوا فينا مقبرة من الحنين ..

إلى من رحلوا وتركوا فينا مقبرة من الحنين ..
 
محمود الجاف
 
ليس هناك أعظم من وجع الفقد، حين يُقتلع من صدرك قلبٌ كنت تظنه ثابتًا، ثم تُرمى فجأة إلى عراء الحياة دون دفء، دون وجهٍ مألوف، دون ضوءٍ تهتدي به من العتمة . الموت لا يأخذ أحبتنا فقط، بل يأخذ معهم جزءًا منّا، يقتلع جذور الطمأنينة، ويترك في أرواحنا فراغًا أوسع من الكون، وأشد ظلمةً من الليل . 
 
أدرك تمامًا أن الكلمات لا تملأ الفراغ، ولا تعيد الملامح، ولا تعوّض غياب الصوت واللمسة والضحكة، لكنها تواسي جراحًا لا تُشفى، وتربت على قلبٍ مُثقلٍ بالصبر والمواجع . أجل، نحن لا نحزن فقط لأن من نحب قد مات، بل لأن الحياة استمرّت بعده وكأن شيئًا لم يحدث . نحزن لأن أرواحنا بقيت معلقة هناك، عند لحظة الفراق الأولى، لم تبرحها، لم تنسَ رائحة الدقائق الأخيرة، ولا صوت الصمت في أعين المودّعين . البرزخ … ذلك العالم الذي لا نعرفه، لكنه صار أغلى علينا من الدنيا، لأن فيه من نحب، من نشتاق، من ماتت فينا الحياة حين غابوا. هم هناك، ونحن هنا، بيننا دعاء لا نعرف هل يصل، وبكاء لا يسمعه إلا الله .
 
 
أن الفقد ليس لحظة . بل امتداد زمني يتسلّل إلى كل تفاصيل الحياة . في الفراش البارد، في المقعد الفارغ، في الهاتف الذي لم يعد يرنّ باسمه، في الذاكرة التي لا تكفّ عن تشغيل المقاطع الأخيرة . وكأن الحياة تمعن في تعذيبنا بالتذكّر، كل يوم، كل ساعة. لكن، رغم كل شيء، يبقى في هذا الألم معنى . فالحب الحقيقي لا ينكسر بالموت، بل يعلو، يتسامى، يصبح أكثر صدقًا، أكثر نقاءً . إنه يتطهّر من الأنانية، من الحاجة، من التملّك، ويغدو دعاءً، وصدقة، وانتظارًا نقيًا للّقاء العظيم . نحن لا ننسى من رحلوا، ولا ينبغي لنا أن نفعل . بل نعيش وفاءهم فينا، نصبر على الشوق، نحتمل الغياب، ونرجو الله أن يجمعنا بهم في مستقر رحمته، حيث لا وداع بعده .
ابكِ، نعم، فالبكاء رحمة . تألّم، فالوجع شهادة على صدق المودّة . لكن لا تيأس، لأن من تحب لم ينتهِ، بل فقط سبقك، وهو الآن في مكانٍ لا تعب فيه، لا مرض، لا حزن، ينتظر . ينتظر دعاءك، ينتظر لقاءك، كما تنتظره أنت . فكن وفيًا لحبك بالصبر، لا بالندم.
 
ووفّر دموعك للدعاء، لا للانكسار . وآمِن أن اللقاء قادم، طال الانتظار أم قصر .
 
حين تكتب الأرواح رسائلها الأخيرة … تقف الكلمات عاجزة أمام مشهد يتجاوز مجرد حكاية، ليتحوّل إلى تراتيل وجع إنساني تتلوه الذاكرة كلما مرّت بنهرٍ، أو زقاقٍ، أو بيتٍ غمره الدفء ثم أطبقت عليه العتمة . رحيلهم … كان فكرة، حلمًا مؤمنًا بأن الحياة لا تُعاش خاضعة، وأن الأوطان لا تُستردّ بالقصائد وحدها، بل بالدم النقي حين يُراق طاهرًا على ضفاف الكرامة . 
في دموعنا رسالة : أن الحب لا تقتله المسافات ولا تردمه المقابر، وأن من رحلوا لا ينقطعون عنا، بل يسكنوننا، يزوروننا في الذاكرة، في المنام، في لحظات الصمت حين تخنقنا الحياة . رحيلهم لم يكن مجرد خبر، بل طعنة في خاصرة الزمان. لكنه، في جوهره، بقاء… فيا من كتبتِ هذه الذكرى، ويا من حملتِ هذا الحنين كوشم على جبين القلب، لا تأسَ على من رحلوا شهداء أو أحبة، بل طهّر حزنك بالصبر، وامضِ، كما يمضي الذين يعرفون أن أرواحنا تلتقي مهما طال الغياب، وأن يومًا ما، سنجلس جميعًا على مقعد ضيّق يطلّ على نهر، وتعود الضحكة، ويعود احبتنا دون خوف، دون بندقية، دون حرب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب