ثقافة وفنون

وداعا زياد… أيها الغريب الذي يشبهنا أكثر من أنفسنا

وداعا زياد… أيها الغريب الذي يشبهنا أكثر من أنفسنا

إبراهيم برسي

رحل زياد

كما يرحل الحزن من دون وداع، وكما تنكسر موسيقى من غير أن يُسمع لها نشاز، وكما يتوقف البيانو عن العزف فجأة، لأن القلب خاف أن يخذلها.
زياد الذي لم يكن ابن فيروز وحدها، بل ابن كل من عرف أن الكلمة سلاح، وأن السخرية أنبل أنواع الصراخ.
زياد الذي علّمنا أن الجملة قد تكون رصاصة، والضحكة قد تكون وصمة، والبيانو وطن بديل، و»كيفك إنت؟» سؤال فلسفي يُطرح على دولة، لا على حبيب.
لم يمت زياد اليوم فقط، مات مرّات كثيرة، متشظيا بين موت الحرب، وموت الصداقة، وموت الغدر، وموت الخيبة. مات يوم وجد نفسه يُغنّي في مدينة مقسومة على الطوائف، ويكتب في جريدة مُحاصرة بالرقابة، ويحبّ امرأة تحب صمته أكثر من موسيقاه. مات حين رأى جوزيف صقر يرحل من دون أن يأخذ معه أغنياته، ومات حين قرأ التعليقات على اسمه في «التيارات» التي حوّلها إلى نكتة، ومات أكثر حين احتاجوه مهرّجا لمرحلة ولم يعرفوا أنه كان ينزف وهو يُضحكهم.
زياد لم يكن رجلا، بل حالة.
لم يكن فنانا، بل حوارا طويلا بين وجع الناس وفوضى العقل. كان يشبه بيروت حين كانت تحلم، ويشبه الشام حين كانت تصغي إلى العود، ويشبه الخرطوم حين كانت تصنع من الحروف ثورة. برحيله، لا يرحل نجم.. بل تخفت الإضاءة في زاوية المقهى، تسكت آلة كاتبة كانت تكتب تاريخ البلد الهارب من حقيقته،
تذبل شجرة على شرفة لا أحد يسقيها، ويُغلق باب مسرح لن يُفتح بهذه النبرة مرة أخرى.
سامحيه يا فيروز،
لقد جرّب أن يكون ابنا، فلم تسمح له العبقرية.
جرّب أن يكون رجلا عاديا، فخانته الموسيقى.
جرّب أن يكون مرتاحا، فلم تعطه الحياة استراحة.
رحل زياد،
وترك على الطاولة نصف لحن، ونصف سطر، ونصف نكتة، ورائحة عرق لم تجفّ من خشبة المسرح، وصوتا يقول: «أنا مش كافر.. بس الجوع كافر، والخذلان كافر، والوطن الحزين كافر».
وداعا زياد
يا آخر من عزف على أعصابنا دون أن نغضب، ويا أول من قال الحقيقة بطريقة تُضحكنا وتُبكينا في الوقت نفسه.
وداعا أيها الغريب القريب، أيها الحاضر الغائب، يا من علمتنا أن نُحبّ من يقول لنا الحقيقة بمرارة.. لا من يبيعنا أملا بلا طعم.
وداعا حزينا… دعوا البيانو يستريح قليلا. فقد تعب القلب.

كاتب سوداني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب