مقالات

مآلات الصراع بين ترمب والدولة العميقة في واشنطن

مآلات الصراع بين ترمب والدولة العميقة في واشنطن
د. حسين الديك
القدس
تعود فكرة “الدولة العميقة” إلى حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ففي عام ١٩٤٧، صدر قانون الأمن القومي، وهو تشريعٌ مهمٌ غيّر نهج أمريكا تجاه الأمن القومي، حيث أنشأت الولايات المتحدة وكالات رئيسية، مثل وزارة الأمن الداخلي، ومجلس الأمن القومي، ووكالة الاستخبارات المركزية، لممارسة صلاحيات محددة تهدف إلى تشكيل وتنفيذ السياسة الخارجية والداخلية الأمريكية، بل وأكثر من ذلك، غالبًا ما تُقارن استقلالية هذه الوكالات باستقلالية الممثلين المنتخبين، يجب على وكالة الاستخبارات المركزية حماية المصالح الأمريكية في الخارج والقيام بتدخلات سرية من شأنها تغيير السياسة العالمية، ولكنها غالبًا ما تأتي على حساب الحريات السياسية وحقوق الإنسان. يجب على وكالة الاستخبارات المركزية حماية المصالح الأمريكية في الخارج والقيام بتدخلات خفية من شأنها تغيير السياسة العالمية.
مفهوم الدولة العميقة ليس جديدًا، كما أن فكرة وجود مؤامرة خفية تُحرك خيوط الحكومة سرًا ليست اختراعًا جديدًا، فقد كانت هذه الفكرة هاجسًا لدى مُنظري المؤامرة، وموضوعًا لأعمال خيالية لعقود، فالدولة العميقة هي شبكة سرية يُشاع وجودها داخل حكومة الولايات المتحدة، وتتمتع بنفوذ واسع النطاق في البلاد ولا يمتلك أعضاء الدولة العميقة أي سلطة تشريعية تقليدية ، ولكنهم في القوت ذاته يملكون نفوذ على الجيش و قادة الكونغرس ومؤسسات الدولة الاقتصادية والاستخباراتية ، وفي العادة يكون أعضاء الدولة العميقة غير معروفين للعامة، ويُقال إن سيطرتهم تُمارس بطريقة خفية.
يرتبط مفهوم الدولة العميقة بهيكل الحكومة الأمريكية، صُممت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية لمنح المواطن العادي حرية التصرف في كيفية عمل الحكومة، ويحدث ذلك عادةً من خلال انتخاب سياسيين يمثلون آراء ناخبيهم عند صياغة السياسات الحكومية، ولهذا السبب، شُكِّلت الحكومة بثلاثة فروع متساوية، كل منها مُصمَّم لكبح صلاحيات الأخرى.
بعد انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترمب عام 2016، تبنت إدارة ترمب مصطلح “الدولة العميقة” للإشارة إلى خصومه السياسيين، زعم ترمب والعديد من مؤيديه أن مجموعة من المسؤولين الحكوميين وغير الحكوميين قد توحدت في معارضة سرية للرئيس، وكان من بين هذه المجموعة المتآمرين أعضاء من السلطة التشريعية والوكالات الحكومية وأجهزة الاستخبارات، وزعم البعض أن العديد من أعضاء الدولة العميقة الأمريكية كانوا موالين لسلف ترمب، الرئيس باراك أوباما.
ادعى معارضو الرئيس ترمب أن نظريات المؤامرة هذه كانت بمثابة تفسير مناسب، وإن كان وهميًا، لإخفاقات الرئيس، وبدلاً من ذلك، جادلوا بأن إحباط الرئيس من الدولة العميقة المزعومة كان موجهًا ضد البيروقراطية الفيدرالية، التي زعموا أن الرئيس واجه صعوبة في إدارتها، بالإضافة إلى ذلك، جادلوا بأن أعضاء البيروقراطية الفيدرالية لعبوا دائمًا دورًا في صياغة سياسات الحكومة الجديدة.
جادل العديد من مؤيدي الرئيس ترمب بأن المسؤولين التنفيذيين في وسائل الإعلام كانوا أيضًا أعضاء في المؤامرة ضد إدارته، وزعموا أن التكتلات الإعلامية عملت مع أعضاء الدولة العميقة في الحكومة لإحراج الرئيس، أو لتضليل الرأي العام بشأن نجاحات الإدارة، ومن بين مزاعمهم أن أعضاء الدولة العميقة داخل الحكومة والبيت الأبيض غالبًا ما سربوا معلومات أو نشروا قصصًا في وسائل الإعلام، ورفضت مصادر موثوقة هذه الاتهامات ووصفتها بأنها نظريات مؤامرة لا أساس لها.
خلال حملته الانتخابية عام 2024م قطع ترمب وعودًا بالقضاء على الدولة العميقة، وهو تهديدٌ أثار قلق العديد من المسؤولين الحكوميين، ويعتقد البعض أن حرب ترمب على الدولة العميقة ستؤدي إلى دفعٍ نحو تقويض استقلالية أجهزة الاستخبارات.
أثارت نظرية الدولة العميقة في واشنطن العاصمة شائعاتٍ حول وجود قوى سرية تُدير الحكومة، وركز الخطاب السياسي على هذه الفكرة بشكلٍ أكبر، لا سيما مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية لعام 2024، لفهم أصول الدولة العميقة، لا بد من دراسة تاريخ الأمة، وتحديدًا الفترة من 1945 إلى 2001، شهدت هذه الفترة صعود دولة الأمن القومي، مع تأسيس منظمات مثل وكالة المخابرات المركزية ووكالة الأمن القومي، كان لظهور الدولة العميقة من عام 1945 إلى هجمات 11 سبتمبر 2001 عواقب وخيمة على السياسة الأمريكية الحديثة.
أعاد فوز ترمب في 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، الجدل حول ما يُسمى بالدولة العميقة، إذ واصل ترمب اختلاق التحديات التي تواجه إدارته، مُصوّرًا إياها على أنها تناقض مع مصالح بيروقراطية قوية تسعى إلى عرقلة رؤيته، يجب موازنة سيطرة إدارة ترمب على الوكالات الحكومية بعناية، وهذا يعني ضمان الأمن القومي، وحل النزاعات السياسية، والتمسك بالقيم الديمقراطية، على الرغم من صعوبة الأمور.
عاد الحدث عن الدولة العميقة إلى الظهور في الوعي العام كشبحٍ يُخيّم على السياسة الحديثة، من خلال استهداف ترمب لمؤسسات الدولة العميقة مثل وكالة المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي كأعداءٍ يُعارضون خططه، استمتع ترمب كثيراً بتصوير إدارته على أنها تتعرض باستمرارٍ لهجماتٍ من قِبَل مصالحَ نافذةٍ في الوكالات الفيدرالية، بالنسبة للعديد من الأمريكيين، عبّر ذلك عن خيبة أملهم من الهياكل السياسية التقليدية، حيث أظهرت بيانات استطلاعات الرأي أن ما يقرب من نصف الأمريكيين يعتقدون أن شكلاً من أشكال الدولة العميقة يعمل خلف الكواليس، وينسجم هذا الرأي مع المخاوف الاجتماعية الأوسع نطاقاً بشأن الشفافية والمساءلة في الحكومة، ويلقي خطاب الدولة العميقة بظلاله على مستقبل الديمقراطية الأمريكية، فالمواطنون الذين ينظرون إلى الجماعات المُنافسة كمشاركين فاعلين في مؤامرةٍ تُحاك ضد مصالحهم قد يزدادون انقسامًا، والقادة الذين يُصوّرون الخلاف السياسي كجزءٍ من مؤامرةٍ مُظلمةٍ بدلًا من كونه معارضةً مشروعةً يُخاطرون بتهيئة بيئةٍ تُضعف الثقة في المؤسسات الديمقراطية الامريكية ونتيجةً لذلك، قد يزداد انقسام الناس، ويتوقفون عن النظر إلى الجماعات الأخرى كمنافسين، بل كمشاركين فاعلين في مؤامرةٍ تُحاك ضد مصالحهم.
وكان تشكيل ما يعرف ب “ادارة الكفاءة الحكومية” برئاسة أيالون ماسك وتسريح مئات الالاف من الموظفين الفدراليين في العام 2025م احدى اهم تجليات هذا الصراع بين ترمب ومؤسسات الدولة العميقة، ولكن رغم كل ذلك فان هناك خطوط حمراء لا يستطيع ترمب تجاوزها ، ولا يمكن لأي رئيس تجاوز الدولة العميقة او تفكيكها او القضاء عليها، فهذا الصراع الظاهر الان هو صراع محسوم لصالح مؤسسات الدولة العميقة وذلك يعود الى طبيعة النظام السياسي الامريكي والبيان صنع القرار فيه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب