النقاش بشأن عودة وهم “حل الدولتين”

النقاش بشأن عودة وهم “حل الدولتين”
عوض عبد الفتاح
الانشغال بمسار “حل الدولتين” سيستهلك سنوات طويلة، وقد تُبدَّد فيه طاقات وأموال هائلة لإعادة إنتاج الوهم.
يحتفي العديد من الفلسطينيين بعودة “حل الدولتين” إلى الأجندة الدولية، مهلّلين للبيان الختامي الصادر عن مؤتمر نيويورك، الذي أعاد التأكيد على هذا الحل كمخرج مما يُسمى زورًا، بـ”الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني”. ويستمد هؤلاء ثقتهم المتزايدة بهذا الحراك الدولي من ردّ الفعل الهستيري الصادر عن إسرائيل والإدارة الأميركية، التي تحكمها نسخة جديدة من المنظومة الصهيونية – الغربية العدمية والاستئصالية، التي ترفض أي شكل من التعايش القائم على العدالة. إن تلك الدول قررت الهروب من اتخاذ موقف عملي صارم ضد الإبادة والمقتلة المتواصلة إلى الحلول المشوهة.
ينقسم المحتفون بهذا الحراك إلى فئتين؛ الفئة الأولى تمثّلها سلطة أوسلو، وما تبقّى من طبقة ضيقة تعتاش على المعونات الخارجية، وقد تخلّت عن قناعتها بجدوى المقاومة، حتى بأبسط أشكالها المدنية. هذه الفئة أبدت ارتياحًا واضحًا لإدانة البيان لحركة حماس ولإقصائها من المشهد السياسي، بما في ذلك الانتخابات الوطنية التي أعلن عنها رئيس السلطة، رغم أن هذا الفصيل يستند إلى قاعدة شعبية واسعة. وهي فئة تفتقد إلى الشرعية الشعبية والأخلاقية، وتُعدّ منبوذة ومكروهة في أوساط المجتمع الفلسطيني.
أما الفئة الثانية فهي أوسع نسبيًا، وغير منتمية إلى مدرسة أوسلو، وتضم أطيافًا سياسية وأيديولوجية متعددة. ترى في هذا الحراك الدولي، رغم عيوبه البنيوية، فرصة لإبقاء القضية الفلسطينية حية على الأجندة العالمية، ومجالًا لمجابهة التحالف الأميركي –الإسرائيلي الممعن في الإبادة، ويمكن، إذا ما أُحسن استخدام هذا الحراك، أن يساهم في الانتقال إلى مرحلة مواتية أكثر لصالح النضال الفلسطيني. موقف هذه الفئة صادق ومنطقي، ويستند إلى تحليل واقعي للحالة الفلسطينية والعربية والدولية. ورغم ذلك، يُلاحظ أحيانا في أوساطها ميل إلى المساواة بين السلطة وحركتي حماس والجهاد الإسلامي من حيث المسؤولية عن الانحدار السياسي وعن الحالة الفلسطينية الراهنة، بل إن بعض أفراد هذه الفئة أدمنوا على جلد، وليس نقد، حركة حماس وتحميلها مسؤولية كل ما يجري من إبادة، بشكل يُغذي سرديات التشويه الصهيونية والغربية والرجعية العربية، ويتجاهل السياق الحقيقي للمقاومة.
النقاش مع الفئة الأولى مضيعة للوقت؛ إذ كرّست سلطة أوسلو مشروعها في التفريط بالمخزون الثوري والأخلاقي للحركة الوطنية، وتحوّلت منذ زمن طويل إلى منفذ ثانوي في نظام الأبرتهايد الكولونيالي، وساهمت في نشر الإحباط والتحلل من السياسة، وواجب المشاركة النضالية، وفي دبّ اليأس بين الناس. وقد تجلّى خلال حرب الإبادة عجزها وبلادتها، بل وانعدام بوصلتها الوطنية. والتضييق الإسرائيلي عليها لا يُعبّر عن موقف من وطنيتها، بل عن طبيعة نظام الأبرتهايد في طبعته الأكثر توحشا وتطرفا، وعن عدم احترامه حتى لمن يتنسق أمنيًا معها، كون إسرائيل تسعى إلى فرض سيطرة استعمارية شاملة على فلسطين، وتكريس دورها كشرطيّ للإمبريالية الأميركية في المنطقة، وتطويع الحكّام العرب والفلسطينيين ليكونوا عبيدًا لها. ومن الأمثلة الصارخة الحديثة على هذا التوجه، تعامل إسرائيل مع أحمد الشرع، رئيس الإدارة الجديدة في سورية، حيث قابَلَت انبطاحه بمزيد من العدوان العسكري والتدخل المدمّر.
من العبث إنكار أهمية الحراك الدولي والدبلوماسي الجاري، لكن من الخطير أيضًا التغافل عن المخاطر الكامنة في مخرجات مؤتمر نيويورك، وعدم التوقف عندها لدراسة آثارها المحتملة في حال تقدّم مسار “حل الدولتين” كما جاء في نص البيان.
بغض النظر عن الموقف من صواب أو خطأ حسابات حركة حماس، فمن التناقض الصارخ الاحتفاء بإعادة إدراج القضية الفلسطينية على الساحة الدولية عبر مسار “حل الدولتين”، مقابل ساهم في إعادة تحريك هذه الساحة الرسمية، والأهم الساحة الشعبية العالمية منذ السابع من أكتوبر 2023. لا يعني ذلك تجاهل النقد المشروع والمطلوب لأخطاء الحسابات التي رافقت إطلاق الطوفان، لكن من الواضح أن الحراك الدولي هو نتاج مباشر لهذا الحدث، حتى الإدارة الأميركية السابقة، بموقفها الإبادي، أعادت طرح “حل الدولتين” بعد أيام قليلة من 7 أكتوبر.
فكيف لقوى أوسلو أن تتحدّث عن إنجازات دبلوماسية، بينما تشارك في تجريم قوى فلسطينية شعبية فاعلة، كانت محركا رئيسيا لهذا الحراك؟ أليس هذا ضربًا من التنافر المعرفي؟
وكيف يُمكن أن تُبنى دولة فلسطينية على أرضية بيانٍ مليء بالشروط الظالمة؟ إذا بدأ التفاوض من هذه النقطة، فأين سينتهي؟ ألن يكون مآله إعادة إنتاج نظام البانتوستان، أي نسخة مكررة من اتفاق أوسلو الكارثي؟
ما هو الخيار المطروح أمام القوى الوطنية؟
المبادرة الحالية بيد قوى دولية كبرى وأنظمة عربية تابعة أو متحالفة مع الإمبراطورية الأميركية، وليست في يد القوى الشعبية الفلسطينية، ولا حتى السلطة. لقد جرى تهميش الفلسطيني وتغييبه عن تقرير مستقبله، وساهم في ذلك الانقسام الداخلي، وسوء الحسابات العسكرية، وإخفاق في إدارة المعركة السياسية بما يتسق مع عدالة القضية، ومراعاة لما طرأ من اصطفاف أميركا والغرب في دعم الإبادة. لقد تمّ التعويض عن ذلك بالخطاب السياسي المتقدم الذي صاغه أحرار العالم والنشطاء الفلسطينيين المتمرسين في سياسات الشارع الغربي وحركاته التقدمية، من أجل العدالة الإنسانية.
فقد افتقرت حركة “الطوفان” إلى خطاب سياسي متكامل، ورؤية وطنية واضحة تنسجم مع زخم التضامن العالمي، رؤية تُفكك منظومة الاستعمار، وتقترح إطارا ديمقراطيا إنسانيا يُعزز من التحشيد العالمي ويُقوّض الخطاب الاستئصالي الإسرائيلي.
علينا التمييز بين نوايا بعض الدول الغربية، كإيرلندا وإسبانيا، التي قد تسعى بصدق إلى قيام دولة فلسطينية كاملة السيادة، ودول أخرى مثل فرنسا، التي تهدف فقط إلى تغليف تواطؤها مع حرب الإبادة بمظهر دبلوماسي يُروّج لـ”دولة شكلية”.
المرجّح أن يتواصل الحراك الدولي الرسمي، ولكن، نظرًا للشروط المجحفة والعدوانية الإسرائيلية – الأميركية، فإن المسار قد يؤدي إما إلى فرض تنازلات إضافية على الفلسطينيين، خصوصا في ظل احتمال عدم توفر مقاومة شعبية حقيقية في المدى المنظور، أو إلى مأزق جديد يُنذر بانفجار قادم.
ما الذي يجب أن تفعله القوى الوطنية وعلى ماذا تُعوّل؟
أولا، تجب إجادة قراءة نتائج هذه الجولة مع نظام الأبرتهايد الإبادي. فهي لم تحقق تغييرا في ميزان القوى على الصعيد العسكري، أو الأدق لم ينتج وضع يسمح للشعب الفلسطيني بفرض شروط الحد الأدنى من حقوقه، مثل دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة على جزء من فلسطين في الزمن الحالي. النتائج الإنسانية كارثية وغير مسبوقة، وستظل آثارها حاضرة، المادية والنفسية والاجتماعية لفترة طويلة، مما يضعف أيضا الدور السياسي الفلسطيني.
ولكن أيضا، من جهة أخرى، تجب رؤية البذور التي زرعتها هذه المواجهة، التي وإن ربما أغلقت أفق المقاومة العسكرية لحقبة زمنية طويلة، إلا أنها جردت إسرائيل من صورتها عن ذاتها المزيفة، وأظهرتها كما هي في الأصل، حركة استعمارية استئصالية، ترفض أيديولوجيتها العيش المتساوي مع أهل فلسطين. وبالتالي، فإن جل المعركة في السنوات القادمة ستتركز في الساحة الدولية، التي من المفترض أن تمهد الطريق لإعادة إصلاح الحالة الفلسطينية بمبادرة من تحت وليس من فوق. لذلك، يمكن تلخيص الموقف والعمل بخصوص التعامل مع مخرجات مؤتمر نيويورك.
أولا: إعلان موقف مبدئي من مخرجات مؤتمر نيويورك، والتأكيد على أنها ـ رغم مثالبها ـ ثمرة لصمود الشعب الفلسطيني، لا لصحوة ضمير لدى الغرب أو العرب الرسميين، وليست نتيجة للتنسيق الأمني مع المحتل.
أما الموقف المبدئي المطلوب، فيكمن في بلورة رؤية إستراتيجية لتفكيك نظام الأبرتهايد والاستعمار الاستيطاني، والعمل على تحقيق حق تقرير المصير لجميع تجمعات الشعب الفلسطيني، ضمن دولة ديمقراطية واحدة بين النهر والبحر، تضمن المساواة والعدالة. أما إستراتيجية العمل، فهي إستراتيجية المقاومة الشعبية المدنية الحقيقية المستندة إلى خطة متكاملة، تتشابك مع الحراك العالمي والعربي الشعبي.
إن الانشغال بمسار “حل الدولتين” سيستهلك سنوات طويلة، وقد تُبدَّد فيه طاقات وأموال هائلة لإعادة إنتاج الوهم. وسيُعاد تأهيل طبقة أوسلو – كامب ديفيد – وادي عربة، وتقوية الأنظمة المتحالفة أمنيًا وعسكريًا مع إسرائيل. الهدف من كل هذا هو تهدئة الصراع وتخدير الفلسطينيين، كما حصل في العقود الثلاثة الماضية، فيما تُمنح آلة التطهير العرقي الإسرائيلية مزيدا من الوقت لتجذير المشروع الكولونيالي التطهيري في غزة والضفة والقدس، وربما أراضي 48.
ثانيًا: التعويل على التحولات العميقة في الرأي العام الغربي، وعلى الحراكات الشعبية المتصاعدة، التي قطعت شوطا مذهلا في مجال الوعي بحقيقة المشروع الصهيوني وارتباطه بالنظام العالمي الظالم، وفي إدراك جوهر القضية الفلسطينية كقضية تحرر من استعمار غربي – صهيوني. ومع أن هذا الحراك لم يصل بعد إلى مرحلة إزاحة النخب الكولونيالية المتحالفة مع الصهيونية، فإن تراكمه يُمهّد الطريق لنخب جديدة إنسانية وتقدمية. ولكن الطوفان الشعبي العالمي وحده لا يحسم المعركة؛ بل النهوض الشعبي داخل فلسطين وإعادة تفعيل طاقات الجماهير هو الحاسم.