العصيان المدني: أداة دستورية للدفاع عن العقد التوافقي

العصيان المدني: أداة دستورية للدفاع عن العقد التوافقي
يُعَدُّ العصيان المدني أحد أبرز الوسائل السلمية التي يلجأ إليها الأفراد والجماعات لمواجهة قرارات أو سياسات سلطوية تُهدّد وحدة الشعب وتلحق الضرر بمصالح الوطن.

يقوم هذا الفعل على أساس المسؤولية الأخلاقية للفرد تجاه ضميره والمجتمع، ويتطلّب في آنٍ واحد احتراماً عاماً للقانون من حيث المبدأ، ورفضاً محدّداً لقرارات مجحفة أو غير شرعية. وقد تناول العديد من الفلاسفة والمفكّرين السياسيين هذا الموضوع من زوايا مختلفة، بدءاً من هنري ديفد ثورو وصولاً إلى جون راولز ويورغن هابرماس، مروراً بالمهاتما غاندي وهوارد زين.
أولاً: الإطار النظري للعصيان المدني
عرّف جون راولز العصيان المدني بأنه «عمل علني، غير عنيف، مَبدئي، يقوم به مواطنون في مجتمع ديمقراطي بهدف إحداث تغيير في قوانين أو سياسات حكومية يرونها ظالمة» (Rawls, 1999, pp. 320–321). يضيف راولز أنّ جوهر هذا الفعل يكمن في احترام النظام القانوني العام، إذ يتقبّل الفاعلون العقوبة المترتّبة على أفعالهم باعتبارها جزءاً من التزامهم بالمبادئ الديمقراطية (Rawls, 1999, p. 321).
أمّا هنري ديفد ثورو، فقد رأى أنّ على الفرد واجباً أخلاقياً في الامتناع عن التعاون مع الظلم، حتى لو كان هذا يعني انتهاك القانون. ففي مقاله «العصيان المدني» عام 1849، اعتبر أنّ «الحكومة الأفضل هي التي تحكم أقل» وأنّ المواطن ينبغي أن يكون أولاً «إنساناً» قبل أن يكون من «الرعيّة» (Thoreau, 1849, pp. 1–2).
ويرى يورغن هابرماس أنّ العصيان المدني هو أداة للتواصل السياسي، إذ يُخاطب الفاعلون الرأي العام عبر فعل رمزي علني يهدف إلى تحريك النقاش حول العدالة والمصلحة العامة (Habermas, 1996, pp. 383–384).
ثانياً: الأساس الأخلاقي لواجب العصيان المدني
ينبع واجب العصيان المدني من تصوّر فلسفي يعتبر أنّ الشرعية السياسية لا تُختزل في القانون وحده، بل تتأسّس على العدالة والمصلحة العامة (Rawls, 1999, pp. 307–311). وعليه، فإنّ أي قرار سلطوي يمسّ وحدة الشعب أو مصالح الوطن يُعدّ تقويضاً لشرعية السلطة نفسها.
عند ثورو، يكون هذا الواجب فرديّاً بالأساس، إذ يرفض أن يشارك الفرد في ظلم جماعي، حتى لو كان ذلك بدفع ضريبة تموّل حرباً غير عادلة (Thoreau, 1849, pp. 12–14). أمّا عند راولز، فالواجب مشروط بكون المجتمع ديمقراطياً، وبأن تُستنفد أولاً الوسائل القانونية قبل اللجوء إلى العصيان (Rawls, 1999, pp. 326–328).
غاندي بدوره نقل العصيان المدني إلى مستوى النضال الجماعي، معتبراً أنه وسيلة أخلاقية للحفاظ على وحدة الأمة في مواجهة الاستعمار البريطاني، كما في حملة الملح عام 1930 التي جمعت الهندوس والمسلمين في عمل رمزي موحّد ضدّ ضريبة ظالمة (Gandhi, 1993, p. 115).
ثالثاً: العصيان المدني ووحدة الشعب
عندما تتّخذ السلطة قراراً يزرع الانقسام في المجتمع أو يضع فئة ضد أخرى، فإنّ العصيان المدني يصبح وسيلة لإعادة بناء اللحمة الوطنية (Habermas, 1996, p. 385). يوضح هابرماس أنّ الأفعال الرمزية المفتوحة قادرة على إعادة تعريف المجال العام، بحيث تدفع المواطنين إلى تجاوز الهويات الضيّقة لصالح المصلحة المشتركة (Habermas, 1996, p. 386).
العصيان المدني
ليس خروجاً على القانون
بل دفاع عنه، إذ يهدف
إلى إعادة النظام السياسي
إلى مساره الشرعي
التجربة التاريخية تُظهر ذلك بوضوح؛ فحملة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، بقيادة شخصيات مثل مارتن لوثر كينغ جونيور، استخدمت العصيان المدني لمواجهة قوانين الفصل العنصري التي قسّمت المجتمع وألحقت الضرر بوحدته (King, 1963, p. 42).
رابعاً: شروط ممارسة العصيان المدني المشروع
يمكن استنتاج مجموعة من الشروط التي تجعل العصيان المدني واجباً مشروعاً:
1 – وجود قرار ظالم بوضوح: أن يكون الفعل السلطوي مخالفاً لمبادئ العدالة ويؤثّر على وحدة المجتمع (Rawls, 1999, p. 328).
2 – استنفاد الوسائل القانونية: كما يشترط راولز، ينبغي أن تكون القنوات الديمقراطية قد جُرّبت دون جدوى (Rawls, 1999, p. 329).
3 – الطابع السلمي والعلني: غاندي وثورو وهابرماس جميعهم يؤكّدون على العلنية واللّاعنف كشرطين أساسيّين (Gandhi, 1993, p. 118; Thoreau, 1849, pp. 1–2; Habermas, 1996, pp. 383–384).
4 – تحمّل العواقب: الاستعداد لمواجهة العقوبة القانونية يعكس احترام النظام العام مع الاعتراض على قرار محدّد (Rawls, 1999, p. 331).
5 – الهدف التواصلي والسياسي: أن يكون الغرض إحداث نقاش عام وبناء وعي جماعي حول المصلحة الوطنية (Habermas, 1996, p. 386).
خامساً: نقد وتحدّيات العصيان المدني
رغم مكانة العصيان المدني، فقد وُجّهت إليه انتقادات. يرى بعض المفكرين أنّ الإفراط في اللجوء إليه قد يؤدّي إلى تقويض احترام القانون وتشجيع الفوضى (Zinn, 1968, p. 22). ويذهب هوارد زين إلى أنّ حصر العصيان في الشكل السلمي الصرف قد يحدّ من فاعليّته في مواجهة أشكال متطرّفة من الظلم، مشيراً إلى أنّ المقاومة قد تحتاج أحياناً إلى تنويع الأساليب (Zinn, 1968, p. 45).
كما أنّ ثمّة مَن يحذّر من أنّ بعض حركات العصيان قد تتحوّل إلى أدوات في صراعات سياسية ضيّقة، ممّا يُفقدها بعدها الأخلاقي ويحوّلها إلى مجرّد أداة للضغط الفئوي (Zinn, 1968, p. 47).
سادساً: العصيان المدني كواجب وطني
عندما تخرق السلطة المبادئ التي تشكّل أساس العقد الاجتماعي — مثل حماية الوحدة الوطنية وضمان المصلحة العامة — فإنّ واجب العصيان المدني يتحوّل من خيار سياسي إلى ضرورة أخلاقية (Rawls, 1999, pp. 334–341). هذا ما عبّرت عنه نصوص دستورية تاريخية، مثل الدستور الفرنسي لعام 1793 الذي نص على أنّه «عندما تنتهك الحكومة حقوق الشعب، تصبح الثورة حقّاً مقدّساً وواجباً حتمياً» (French National Convention, 1793, Art. 35).
بهذا المعنى، فإنّ العصيان المدني ليس خروجاً عن القانون بل دفاع عنه، إذ يهدف إلى إعادة النظام السياسي إلى مساره الشرعي. ويؤكّد هابرماس أنّ هذه الأفعال تعيد تنشيط الفضاء العمومي وتربط بين الأخلاق والسياسة (Habermas, 1996, p. 386).
سابعاً: العصيان المدني في المجتمع التعددي والديمقراطية التوافقية
في المجتمعات التعدّدية التي تعتمد نموذج الديمقراطية التوافقية، كما هو الحال في أنظمة سياسية تقوم على تقاسم السلطة بين مكوّنات طائفية أو إثنيّة أو لغوية، يصبح الحفاظ على التوازن بين المكوّنات شرطاً أساسياً للاستقرار السياسي (Lijphart, 1977, pp. 25–26).
يقوم هذا النموذج — الذي نظّر له أرند ليبهارت — على مشاركة المكوّنات الأساسية في صنع القرار، وضمان تمثيلها وحماية حقوقها، بحيث يُتَّخذ القرار بالتوافق أو بأغلبية مشروطة تضمن عدم تهميش أي مكوّن (Lijphart, 1977, pp. 30–31).
غير أنّ هذا النظام، رغم ضماناته، قد يواجه أزمة إذا اتّخذت السلطة قراراً إستراتيجياً أو سيادياً يعارضه مكوّن أساسي من مكوّنات الشعب. في هذه الحالة، يفقد القرار جزءاً من شرعيّته التوافقية، لأنّ شرعية القرارات في مثل هذه النظم لا تُستمدّ فقط من الأغلبية العددية، بل من قبول جميع الشركاء أو على الأقل غالبيّتهم الممثّلة للمكوّنات (Lijphart, 1977, pp. 31–33).
في مثل هذا السياق، يمكن للعصيان المدني أن يظهر كأداة دستورية – أخلاقية للدفاع عن العقد التوافقي ذاته. فإذا شعر مكوّن أساسي أنّ القرار يمسّ جوهر دوره أو يهدّد حصّته في السلطة أو أمنه الثقافي والاجتماعي، قد يلجأ إلى العصيان المدني لإجبار السلطة على العودة إلى منطق التوافق (Lijphart, 1977, p. 34).
يرى منظّرو الديمقراطية التوافقية أنّ التوافق ليس غاية في ذاته بل وسيلة لحماية وحدة المجتمع في ظل التنوّع، وأنّ خرقه عبر قرارات أحادية يبرّر أشكالاً من المقاومة السياسية المشروعة (Lijphart, 1977, pp. 34–35). وهذا يتّفق مع المبدأ العام الذي طرحه راولز عن شرعية العصيان المدني كأداة لحماية أسس النظام السياسي عندما تُنتهك قواعده الأساسية (Rawls, 1999, p. 335).
تؤكّد تجارب تاريخية في دول مثل بلجيكا ولبنان وسويسرا أنّ غياب التوافق على قرارات كبرى — سواء تعلّقت بالسياسة الخارجية أو توزيع السلطة أو الإصلاحات الدستورية — يؤدّي إلى ردود فعل جماعية من المكوّن المعترض، قد تشمل العصيان المدني أو المقاطعة أو الانسحاب المؤقّت من المؤسّسات (Bogaards, 2019, p. 57).
وفي هذه الحالات، يكون الهدف الأساسي هو إعادة التفاوض على القرار ضمن الإطار التوافقي، لا إسقاط النظام أو تقويض الدولة.
خاتمة
يتّضح من مراجعة التراث الفلسفي والسياسي أنّ العصيان المدني، حين يُمارَس وفق ضوابط واضحة، هو أداة أساسية لحماية وحدة الشعب ومصالح الوطن في مواجهة القرارات السلطوية الضارّة. يلتقي ثورو وراولز وغاندي وهابرماس على فكرة أنّ هذا العصيان ليس مجرّد احتجاج، بل هو فعل مسؤول يجمع بين الالتزام الأخلاقي والفعالية السياسية. وفي السياقات التعدّدية، يصبح العصيان المدني وسيلة لحماية العقد التوافقي وضمان استمرار الشراكة الوطنية. ومع أنّ الانتقادات تُحذّر من مخاطره، فإنّ ضبطه بمعايير محدّدة يجعله جزءاً من الحياة الديمقراطية ويضمن بقاءه في خدمة العدالة والمصلحة العامة.