مقالات

تعقل تركي وجنون سوري

تعقل تركي وجنون سوري

بكر صدقي

كاتب سوري

■ تحدث الرئيس التركي أردوغان، الأسبوع الماضي، في إطار عزمه على المضي قدماً فيما يسميه «مشروع تركيا خالية من الإرهاب»، عن نوع من تحالف تركي – كردي – عربي من شأنه أن يتحول إلى قوة كبيرة في الموازين الدولية. كما ألمح إلى نوع من ائتلاف سياسي يضم كلاً من حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية وحزب المساواة والديمقراطية. يذكر أن الحزبين الأولين يجمعهما تحالف قائم بالفعل منذ أكثر من ثماني سنوات، في حين يمثل الثالث الحركة السياسية الكردية في البرلمان وتعرض للتضييق من قبل التحالف الحاكم طوال السنوات الماضية، ويقبع عدد كبير من كوادره القيادية وبعض رؤساء بلدياته وصحافيين مقربين منه في السجون بدعاوى يعتبرها الحزب سياسية كيدية.
المقصود بـ»تركيا خالية من الإرهاب» هو المسار السياسي الذي أطلقه زعيم حزب الحركة القومية دولت بهجلي، في مطلع شهر تشرين الأول 2024، ودعا فيه زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، إلى توجيه نداء إلى حزبه يطالبه فيه بحل نفسه وإلقاء السلاح. واستجاب أوجلان لهذه الدعوة فوجه النداء المطلوب إلى حزبه في أواخر شهر شباط الماضي. ثم جاءت استجابة الحزب من خلال عقد مؤتمر استثنائي، أوائل شهر أيار، أصدر فيه قراراً تاريخياً بإنهاء الكفاح المسلح وحل نفسه والانتقال إلى النضال السلمي وسيلةً وحيدة للدفاع عن حقوق الكرد في إطار تركيا ديمقراطية. وفي الأسبوع الأول من شهر تموز قدم الحزب عرضاً مصوراً أحرق فيه مجموعة من مقاتليه أسلحتهم، في أحد كهوف جبل قنديل في شمال العراق، في إشارة رمزية لتخليه النهائي عن السلاح والكفاح المسلح، على أن يتم استكمال ذلك وفق برنامج زمني غير معلن.
بهذا الاستعراض الرمزي قام كل من أوجلان وحزبه بالوفاء بما يخصهما من تسوية سياسية غير معلنة مع الدولة التركية، لتصبح الكرة الآن في ملعب الأخيرة مهما روّجت السلطة أن قرار «الكردستاني» هو من طرف واحد وأنها لم تعده بأي شيء في المقابل. فالأمر المعروف في الرأي العام، سواء لدى مؤيدي هذا المشروع أو معارضيه، هو أن ثمة صفقة سياسية تم الاتفاق على تفاصيلها بين الجانبين على أن يبدأ الحزب بتقديم تنازله الكبير، ثم تقوم الدولة بتقديم تنازلاتها بما يموه كونها تنازلات. ومن أجل تحديد محتوى ما يمكن أن تقدمه الدولة تم تشكيل لجنة برلمانية بمشاركة أكثرية الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان، في حين قاطعها حزب قومي هو «الحزب الجيد»، على أن تعقد اجتماعها الأول في الخامس من شهر آب الجاري.
في غياب الشفافية كان هذا المشروع الطموح موضوعاً للجدل بين الأحزاب وصناع الرأي العام، بين مؤيدين متفائلين بطي صفحة مؤلمة من تاريخ تركيا الحديث امتدت لعقود وفتح صفحة جديدة، ومعارضين يحذرون من عواقبها المحتملة على وحدة البلاد وأمنها القومي. من المحتمل أن غياب الشفافية المتعمد كان لتفادي الألغام الكثيرة المحتملة على الطريق، كتلك التي انهار بسببها «مسار الحل السلمي» في العام 2013.

من المحتمل أن غياب الشفافية المتعمد (بالاتفاق على إنهاء “الكردستاني” الكفاح المسلح وحل نفسه) كان لتفادي الألغام الكثيرة المحتملة على الطريق، كتلك التي انهار بسببها «مسار الحل السلمي» في العام 2013

من الملاحظات اللافتة أن أردوغان بدا فاتراً في تأييده للمشروع الجديد طيلة الأشهر الماضية، تاركاً المبادرة لحليفه بهجلي والجانب الكردي الممثل في كل من أوجلان وحزب المساواة والديمقراطية الذي كان قد شكل وفداً قام بزيارات عدة إلى سجن إيمرالي للقاء أوجلان، تلتها جولات على قيادات الأحزاب السياسية لإحاطتها بما يجري والسعي إلى نيل تأييدها. إلى أن جاء خطاب أردوغان المشار إليه الذي تبنى فيه المشروع بصورة تامة.
إن حديث أردوغان عن التحالف التركي – الكردي – العربي يحيل بصورة لا مفر منها إلى ترابط يضم البلدان المجاورة حول محور المشكلة الكردية بامتداداتها التركية والسورية والعراقية حيث ثمة جغرافيا متصلة يقيم عليها الكرد بين البلدان الثلاثة. في حين يتم استبعاد إيران من هذه الصيغة على رغم امتداد الديموغرافيا الكردية على أراضيها. هذا التصور أطلق عنان افتراضات بشأن تصور أردوغاني لاستبدال الدولة – الأمة التركية وفقاً للعقيدة الرسمية بـ”أمة إسلامية» (سنية) تضم شعوب تركيا وسوريا والعراق، لتذيب المشكلة الكردية في إطارها. الطريف في الأمر أن تصريحات أردوغان هذه تزامنت مع تصريحات للسفير الأمريكي في أنقرة ومبعوث الرئيس ترامب إلى سوريا ولبنان توماس براك، امتدح فيها نظام الملل العثماني الذي تعايشت فيه الأقوام والأديان والمذاهب في انسجام!
وزاد دولت بهجلي في الطنبور نغماً في كلام نسب إليه، مؤخراً، تم تسريبه من اجتماع حزبي، اقترح فيه نظاماً رئاسياً في تركيا فيه نائبان للرئيس أحدهما كردي والآخر علوي! الأمر الذي يتعارض مع النظام الديمقراطي العلماني الذي يعتبر فيه كل المواطنين سواسية بصرف النظر عن انتماءاتهم الفرعية. ولم يصدر أي تكذيب بهذا الشأن من بهجلي أو من حزبه، مما يسمح لنا باعتباره يعبر عن منحى أفكار الرجل.
يمكن تفسير كل هذه «الهرطقات” الأردوغانية والبهجلية حين ندرجها في الإطار الأوسع للتحولات الكبيرة الجارية في الإقليم منذ عملية «طوفان الأقصى» التي «غيّرت وجه الشرق الأوسط» على ما توعد نتنياهو الذي شن حروباً دامية مدمرة على عدة جبهات أدت، إلى الآن، إلى إبادة مستمرة للفلسطينيين وتدمير قدرات حزب الله في لبنان، وإسقاط نظام الأسد في سوريا، وضرب مواقع إيرانية حساسة مع إخراجها إلى حد بعيد من خارطة نفوذها في المشرق العربي. الأمر الذي لم يخفه على أي حال كل من بهجلي وأردوغان في مناسبات عدة حذرا فيها من خطر إسرائيلي قد يمتد إلى الأناضول حسب تعبيرهما. وعلى رغم ما ينطوي عليه هذا التحذير من مبالغة، فهو لا يخلو من منطق (ينسب إلى الدولة التركية العميقة) يرى في الدعم الأمريكي غير المحدود للعدوانية الإسرائيلية المنفلتة خطراً يهدد الإقليم بتغيير الخرائط فعلاً، إذ لم تعد نادرة التحليلات التي ترى في تدخل إسرائيل في أحداث السويداء، في شهر تموز، وترويجها لما يسمى «ممر داوود» بين جنوب سوريا وشمالها الشرقي، مشروعاً لتفتيت الدولة السورية على أسس إثنية وطائفية ودينية.
المهم في المسار الجريء الذي أطلقه بهجلي وتجاوب معه أوجلان، هو أن ممثل الحركة القومية التركية الأكثر تشدداً ضد «النزعة الانفصالية الكردية» قد تلمس الطريق الصحيح للحفاظ على وحدة بلاده في زمن العواصف العاتية. أما سلطة دمشق فقد كررت أخطاء الأنظمة الدكتاتورية في منطقتنا وفعلت كل ما في وسعها لدفع المكونات السورية نحو الانفصال بدلاً من احتوائها بالتراضي.

 كاتب سوري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب