أوروبا حاولت لعب ورقتها لتغيير الوضع في غزة وخرجت محبطة من رفض نتنياهو وتجاهل ترامب

أوروبا حاولت لعب ورقتها لتغيير الوضع في غزة وخرجت محبطة من رفض نتنياهو وتجاهل ترامب
نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” تقريرا أعده مايكل دي.شير وستيفن إرلانغر وروجر كوهين قالوا فيه إن خلف تصريحات أوروبا الفزعة بشأن غزة كانت دبلوماسية نشطة. فقد دفعت صور الأطفال الجائعين وخطط إسرائيل لتوسيع المستوطنات بريطانيا وفرنسا وألمانيا إلى اتخاذ موقف أكثر صرامة، إلا أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لم يتراجع.
ففي صباح يوم 23 تموز/يوليو، انطلق المستشار الألماني فريدريش ميرز والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لمناقشة أزمة غزة في قصر باروكي، القائم منذ 112 عاما والمطل على بحيرة تيغل في برلين.
وأبلغ ماكرون ميرز بأنه يتعرض لضغوط هائلة في بلاده، وأنه من المرجح أن يعترف بدولة فلسطينية في الأمم المتحدة أواخر أيلول/سبتمبر، وذلك حسب مسؤولين مطلعين على النقاش، طلبا عدم الكشف عن هويته. وأجاب ميرز بأن هذا جدول زمني أتاح للجميع فرصة للتفكير في خطوتهم التالية. وفي اليوم التالي، ودون إخبار الألمان، أعلن ماكرون قراره علنا، قائلا إن الاعتراف بفلسطن يظهر “التزام فرنسا بسلام عادل ودائم”.
وقد كان قراره جزءا من طفرة ملحوظة في دبلوماسية الشرق الأوسط بين القوى الأوروبية، والتي تسارعت في 19 تموز/يوليو، مع نشر صور مروعة لأطفال يتضورون جوعا على نطاق واسع، وبلغت ذروتها بعد 10 أيام بإعلان مماثل من رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر بشأن قيام دولة فلسطينية. وشكلت هذه التحركات مجتمعةً إعلان استقلال عن إدارة ترامب في قضية استراتيجية رئيسية لطالما حاول الأوروبيون التعامل معها بالتزامن.
شكلت تحركات الأوروبيين مجتمعةً إعلان استقلال عن إدارة ترامب في قضية استراتيجية رئيسية لطالما حاول الأوروبيون التعامل معها بالتزامن
وكشفت مقابلات مع عشرات المسؤولين والدبلوماسيين عن دفعة محمومة، وغير منسقة أحيانا، من أجل السلام بعد سنوات من النقاش، مدفوعة باستنتاج مفاده أنهم لم يعودوا قادرين على انتظار قيادة الولايات المتحدة أو كبح جماح بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي.
وأشارت الصحيفة إلى أن جزءا من الجهود الدبلوماسية كان خطة أعدها مسؤولون بريطانيون بهدوء على مدار الأشهر الستة الماضية، وتداولها الأوروبيون في 29 تموز/يوليو وأشرف عليها جوناثان باول، مستشار الأمن القومي لستارمر والوسيط المخضرم. وكان باول مهندس اتفاقية الجمعة العظيمة، التي أنهت عقودا من الصراع الدموي في أيرلندا الشمالية، وقدم المشورة بشأن العديد من النزاعات منذ ذلك الحين.
وبعد يوم من بدء باول في تداول الخطة البريطانية، وقعت 22 دولة عربية على إعلان يعكس أهدافها الرئيسية في مؤتمر للأمم المتحدة استضافه ماكرون والسعوديون. تضمن الإعلان لأول مرة مطلبا من جامعة الدول العربية بنزع سلاح حماس وتسليم السلطة في غزة. وبعد أشهر من الإجراءات التدريجية، عكست الطفرة الدبلوماسية الأوروبية الغضب العالمي إزاء المذبحة في القطاع، ولكنها عكست أيضا محاولة لتقديم صورة إلى إسرائيل عن تحول وعزم عربي قد يفتح الباب أمام مفاوضات السلام.
وقال مسؤولون مطلعون على المداولات في البلدان الثلاثة إن هذا النشاط المتزايد كان مدفوعا بأدلة تشير إلى انتشار سوء التغذية والمجاعة على نطاق واسع في غزة ومطالبات متزايدة من الناخبين بالتحرك واستنتاج مفاده أن الولايات المتحدة تخلت عن جهودها للدفع نحو السلام أو الحد من العمل العسكري الإسرائيلي.
وفي يوم الخميس، رفض نتنياهو دعوات أوروبا للسلام عندما وافق مجلسه الأمني المصغر على توسيع نطاق الحرب في غزة. وقد دفع قراره بتصعيد الحرب حتى ميرز، وهو مؤيد قوي لإسرائيل، إلى تعليق أي شحنات من الأسلحة الألمانية التي يمكن استخدامها في غزة.
وتشير الصحيفة إلى أن رئيس الوزراء البريطاني ستارمر ووزير خارجيته ديفيد لامي والمساعدين لهما أدركوا أن النقاش بشأن الاعتراف بدولة فلسطينية قد وصل إلى نقطة لا رجعة فيها. فقد أصروا وعلى مدى عدة شهور أن الوقت غير مناسب للإعلان عن هذا.
وفي العام الذي مضى منذ تولي حزب العمال الحكم، أدانوا قصف إسرائيل لغزة، وفرضوا عقوبات على وزيرين إسرائيليين من اليمين المتطرف، وطالبوا بالسماح بدخول المزيد من المساعدات إلى القطاع. ولكن حتى 16 تموز/ يوليو، أصر لامي أمام نواب حزب العمال المحبطين على أن الاعتراف بفلسطين لا يعني إقامة دولة قابلة للحياة للفلسطينيين إلى جانب إسرائيل.
ولكن الحسابات تغيرت بسرعة، ففي 18 تموز/يوليو، أعلنت إسرائيل عن توسيع المستوطنات في الضفة الغربية، وهي خطوة أدانتها الحكومة البريطانية ووصفتها بأنها “انتهاك صارخ للقانون الدولي” من شأنها أن تقوض بشدة أي فرصة لتحقيق سلام قائم على أساس الدولتين. وفي اليوم التالي، نشرت وسائل الإعلام صورا لأطفال يتضورون جوعا في غزة، عظامهم بارزة من أجسادهم الهزيلة. وقد كانت ضربة مزدوجة، حسب مسؤولين بريطانيين بارزين. وكان الوضع على الأرض يتدهور بسرعة والضغط الشعبي يتزايد على ستارمر.
وفي 23 تموز/يوليو، تلقت سارة تشامبيون، عضو البرلمان عن حزب العمال، مكالمة من صديقة في غزة تكافح من أجل الحصول على الطعام. وقالت إن صديقتها أخبرتها: “عائلتي وأصدقائي ينتظرون الموت الآن”. وفي صباح اليوم التالي، أرسلت تشامبيون رسائل واتساب ورسائل بريد إلكتروني إلى زملائها، تطلب منهم توقيع رسالة تدعو رئيس الوزراء إلى الاعتراف بفلسطين. وفي النهاية، وقّع أكثر من 255 نائبا.
وجاء إعلان ماكرون متأخرا في 24 تموز/يوليو. وكتب على مواقع التواصل الاجتماعي مشيرا إلى رسالة موجهة إلى محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، قائلا: “السلام ممكن”. وقد عكست لغته الضغط الذي شعر به للتحرك بسرعة: “من الضروري تطبيق الحل الوحيد القابل للتطبيق لتحقيق التطلعات المشروعة للشعب الفلسطيني”.
قال مسؤول بريطاني بأن بريطانيا ناقشت اعترافا مشتركا بفلسطين، لكن ماكرون أصدر إعلانه دون إبلاغهم بذلك أيضا
وكان ماكرون يشير منذ أسابيع إلى رغبته في الإعلان، لكنه بدا مترددا في بعض الأحيان. وقال مسؤول بريطاني بأن بريطانيا ناقشت اعترافا مشتركا بفلسطين، لكن ماكرون أصدر إعلانه دون إبلاغهم بذلك أيضا. وبعد ما يقرب من عامين من الحرب، شعر الدبلوماسيون الفرنسيون بالإحباط من رفض إسرائيل كبح جماح عملها العسكري أو التخطيط لاستقرار غزة بعد الحرب. وعلى ما يبدو نفد صبر ماكرون من الرئيس ترامب، الذي لم يعد يبدو داعما لحل الدولتين، وبدا غير مهتم بالضغط على نتنياهو.
ومن هنا أراد الرئيس الفرنسي زخما في مساعي السلام، جزئيا لدعم الدول العربية المعتدلة التي تسعى أيضا إلى التقدم نحو دولة فلسطينية. ونظرا لكون فرنسا القوة النووية الوحيدة في الاتحاد الأوروبي، وعضوا دائما في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وموطنا لأكبر جاليتين يهودية ومسلمة في أوروبا الغربية، كان ماكرون يعلم أن الاعتراف بفلسطين سيلقى صدى لدى العديد من الدول الأخرى.
وقالت ريم ممتاز، الخبيرة في السياسة الخارجية الفرنسية في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي: “كان لدى فرنسا ورقة واحدة فقط لتلعبها: الاعتراف بدولة فلسطينية”.
ونظرا لتاريخها النازي ومكانتها كأحد أهم حلفاء إسرائيل، كان من المستبعد دائما أن تعترف ألمانيا بدولة فلسطينية قبل إنشائها، إلا أن ميرز كان مصمما على المشاركة في الجهود الدبلوماسية.
وبعد يوم من إعلان ماكرون، أصدر المستشار الألماني والرئيس الفرنسي وستارمر بيانا مشتركا يدعو إلى إنهاء الحرب والإفراج عن الأسرى ونزع سلاح حماس والسماح بتدفق مزيد من المساعدات الإنسانية ووقف أي خطط إسرائيلية لضم المزيد من الأراضي. وأجرى الثلاثي مكالمة هاتفية في صباح اليوم التالي. واتفقوا على أن الوضع “مروع”، وفقا لملخص بريطاني مكتوب للاجتماع. كان الطعام يتدفق ببطء إلى غزة، ولكن ليس بالسرعة الكافية، ولم يكن هناك أي أمل في وقف إطلاق النار. وتتمتع الدول الثلاث المعروفة باسم “إي3” بنفوذ أكبر عندما تكون متحدة. كما أن وحدتها تمنحها غطاء سياسيا محليا. ولذلك، لم تنتقد ألمانيا فرنسا أو بريطانيا على قراريهما الاعتراف بدولة فلسطينية، ولو جزئيا، حسب مسؤول ألماني بارز، لأنها بحاجة لوحدة إي3 كي تتعامل مع الانتقادات اللاذعة في الداخل بشأن غزة.
وفي يوم الأحد، 27 تموز/يوليو، تحدث ميرز مع نتنياهو مباشرة. وقد ترك المستشار المكالمة محبطا، وفقا لشخص مطلع على المحادثة، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته، بعد أن أصر رئيس الوزراء الإسرائيلي خلال المكالمة على عدم وجود مجاعة في غزة وأن حماس تسرق كميات الطعام الوفيرة التي يتم توصيلها. وفي اليوم التالي، اتصل ميرز وماكرون للمشاركة في اجتماع بين ترامب وستارمر في اسكتلندا.
وحث الأوروبيون ترامب على الضغط على نتنياهو للسماح بدخول المزيد من المساعدات إلى غزة، وفقا لمسؤول تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته. وبعد الاجتماع، أقر ترامب بالوضع المزري في غزة.
ترامب لم يبد اهتماما يذكر بالضغط على السيد نتنياهو لكبح جماح جيشه أو لإنهاء الحرب. ولم يعترض الرئيس علنا على القرار الإسرائيلي بالسيطرة على مدينة غزة
وفي اليوم التالي لمغادرة ترامب بريطانيا، أعلن ستارمر رسميا عن نيته الاعتراف بدولة فلسطين ما لم تتحرك إسرائيل بسرعة لإنهاء الحرب والانطلاق نحو سلام دائم. وانضمت كندا إلى بريطانيا وفرنسا بعد ذلك بوقت قصير. وقد فاجأ إعلان ستارمر الألمان، فقد اعتبروا إعلان ماكرون بالفعل إعلانا غير مثمر، إذ أدى لتصعيد حدة لهجة إسرائيل وموقف حماس في مفاوضات وقف إطلاق النار في قطر، التي انهارت. وفي اليوم نفسه، بدأ باول بمشاركة مسودات الخطة البريطانية مع الحلفاء على أمل اغتنام فرصة تقابل فيها موجة الغضب العالمي المتزايد بأمثلة جديدة على الإرادة السياسية. وكان باول وآخرون في الحكومة البريطانية يعملون على الخطة منذ أشهر، وقد بذلوا جهودا حثيثة لحث القادة العرب على التوقيع عليها. الآن، إلى جانب فرنسا وألمانيا، حاولوا مرة أخرى.
ولم يكن واضحا للدبلوماسيين ما إذا كان ترامب سيدعم الخطة، التي تضمنت بعض الأفكار نفسها التي اقترحها مسؤولون في عواصم أجنبية سابقا دون جدوى. ووفقا لمسؤولين أوروبيين، دعت الخطة إلى: حكومة فلسطينية تكنوقراطية في غزة مرتبطة بسلطة فلسطينية محسنة وقوة أمنية دولية وانسحاب إسرائيلي كامل ومراقبة أمريكية لوقف إطلاق النار؛ وفي النهاية – دولتان مستقلتان. كما احتوت الخطة البريطانية على “ملحق للتنفيذ” بجدول زمني يتضمن مؤتمر الأمم المتحدة المقرر سابقا، برعاية فرنسا والمملكة العربية السعودية، بهدف إحياء الجهود الرامية إلى تحقيق حل الدولتين. وتصورت الخطة التزامات عربية في المؤتمر ووقفا نهائيا لإطلاق النار في غزة، تتوج بخطة سلام بقيادة السعودية وفرنسا لحل الدولتين في الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/ سبتمبر.
ورغم تكرار السؤال، قال مسؤولون فرنسيون إنهم غير قادرين على تحديد ما إذا كانت الولايات المتحدة لا تزال تدعم حل الدولتين، أي السلام الإسرائيلي الفلسطيني. ورد وزير الخارجية ماركو روبيو بغضب على فكرة المؤتمر، واصفا إياه بأنه “في غير وقته” و”حيلة دعائية”. ودفع الأوروبيون بقوة إلى الأمام، على الرغم من الانتقادات. وأجرى ستارمر اتصالات هاتفية مع العديد من القادة العرب، طالبا دعم خارطة الطريق الموضحة في وثيقة باول، بما في ذلك نزع سلاح حماس وإنشاء قوة محتملة بقيادة الأمم المتحدة للحفاظ على السلام بعد انتهاء الحرب. وأجرى ماكرون والسيد ميرز مناقشات مماثلة.
وقد فاجأ البيان الختامي للمؤتمر العديد من المخضرمين الدبلوماسيين في الشرق الأوسط.
وجاء في الوثيقة: “يجب على حماس إنهاء حكمها في غزة وتسليم سلاحها للسلطة الفلسطينية، بمشاركة ودعم دوليين”، وهي المرة الأولى التي توجه فيها جميع الدول العربية مثل هذه الدعوة بشكل جماعي. كما رحب البيان بفكرة “بعثة استقرار دولية مؤقتة” في غزة تعمل بتوجيه من الأمم المتحدة. ولو كان الأمر كذلك، في ظل حكومة إسرائيلية مختلفة، لربما تبنت إسرائيل هذا الإعلان كحل مؤقت لحرب وحشية استمرت قرابة عامين. ولربما كانت هذه أيضا فرصة سانحة للولايات المتحدة لتأكيد نفوذها كأقرب حليف لإسرائيل والضامن التاريخي لأمنها.
لكن ترامب لم يبد اهتماما يذكر بالضغط على السيد نتنياهو لكبح جماح جيشه أو لإنهاء الحرب. ولم يعترض الرئيس علنا على القرار الإسرائيلي بالسيطرة على مدينة غزة. بدلا من ذلك، رفضت كل من إسرائيل والولايات المتحدة إعلان الأمم المتحدة. وأعرب دبلوماسيون في بريطانيا وفرنسا وألمانيا، ممن عمل الكثير منهم لسنوات من أجل السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، عن إحباطهم من عدم انخراط ترامب، الذي ربما يكون الشخص الوحيد في العالم القادر على دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي لتغيير مساره. واعترفوا بأن تصرفات نتنياهو في الأيام الأخيرة دليل على أن القوة الأمريكية ضرورية لإحداث فرق حقيقي على أرض الواقع في الصراع.
ومع ذلك، قال العديد منهم إنه على الرغم من علمهم بأن نتنياهو من المرجح أن يرفض الفكرة، إلا أنهم اضطروا إلى المحاولة. وقالوا إن البديل هو ببساطة الانسحاب، وهو خيار لم يكن الكثيرون مستعدين له.




