مقالات

صراع إرادات يتجاذب إسرائيل: خطة احتلال غزة تتباطأ

صراع إرادات يتجاذب إسرائيل: خطة احتلال غزة تتباطأ

قرار احتلال غزة يتحوّل إلى ورقة تفاوض بين نتنياهو والجيش واليمين المتطرّف، وسط ضغوط أميركية وإسرائيلية داخلية يبدو أنها تُبطئ التنفيذ وتبقي الحرب بلا أفق واضح.

يحيى دبوق

لم يأتِ قرار «الكابينت» الأمني – السياسي الإسرائيلي، التحضير لـ«الاستيلاء على مدينة غزة»، نتيجة إجماع بين قوى موحّدة الآراء، بل بفعل تسوية بين الأطراف ذات العلاقة بالقرار نفسه، والتي يحمل كل منها رؤية متعارضة تماماً مع رؤية الآخر. إذ إن التسريبات التي تَرِد من مصادر سياسية وأمنية وعسكرية، ترسم صورة معقّدة للقرار، ليس بوصفه مقدّمة حتمية للتنفيذ، بل باعتباره وثيقة تفاوضية تُستخدم في صراع داخلي على مستقبل الحرب وآلية إنهائها ومصير الحكومة من بعدها، كما كأداة ضغط على الطرف الآخر، لانتزاع تنازلات كبيرة منه.

وفي هذا السياق، صار واضحاً أن رئيس أركان الجيش، إيال زامير، مدعوماً من كبار ضباطه، يرفض بشدّة فكرة احتلال غزة، سواء المدينة أو القطاع ككلّ، ويرى في الخطوة عبئًا إستراتيجيًّا ثقيلًا، قد يجرّ إسرائيل إلى دوامة حكم عسكري مفتوح، من دون خطّة واضحة لليوم الذي يلي. إلا أنه، وبدلًا من أن يرفض القرار بشكل مباشر، عمد إلى ما يمكن تسميته بـ«التعطيل الإستراتيجي»، عبر طلب مهلة لا تقلّ عن شهرين إلى ثلاثة أشهر للتحضير، وفرضِ شروط لوجستية معقّدة تتعلّق بإخلاء السكان، وتوفير البنية التحتية الإنسانية، وتعبئة ما يقارب 120 ألف جندي احتياط، على أن يصار إلى تدريبهم وتجهيزهم لتنفيذ قرار الاحتلال.

وإذا كانت هذه الشروط تقنية – وهي كذلك في جزء منها -، إلّا أنها في جوهرها سياسية، كونها تمنح الجيش مساحة زمنية واسعة للمناورة، وتُبقي على احتمال التفاوض قائماً، وتُقلّل من زخم التصعيد الذي يدفع إليه بنيامين نتنياهو. كما إن تسريب تلك المعلومات عبر وسائل الإعلام (نقلاً عن مصادر عسكرية)، يهدف إلى تشكيل رأي عام رافض للخطّة، عبر تظهير كلفتها البشرية والاقتصادية والاجتماعية، وأيضاً خطرها على حياة الجنود والأسرى، وهو ما يدعم تحرّك الجمهور في الشارع، ومطالبته بوقف الحرب والتوصّل إلى تسوية.

في المقابل، تُظهر تصريحات قادة اليمين الفاشي المتطرّف، من مثل الوزيرين بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، خيبة أملٍ من القرار؛ إذ إن هؤلاء يطالبون باحتلال شامل لقطاع غزة، كجزء من مشروع أيديولوجي أوسع، عنوانه ضمّ القطاع إلى إسرائيل، وفرض «هجرة طوعية» على الفلسطينيين. وبالتالي، فإن خطة نتنياهو لا تُعدّ، بالنسبة إليهم، طريقًا نحو النصر، بل «استسلاماً» جزئيّاً، خصوصاً أنها تقتصر على مدينة غزة، وتحيّد فكرة السيطرة الكاملة على القطاع. وعلى هذه الخلفية، عبّر سموتريتش، صراحة، عن فقدانه الثقة بنتنياهو، ورأى أن القرار جاء ناقصاً، ولا يخدم «الهدف الأسمى»، وهو «إعادة السيادة الإسرائيلية على كامل أرض إسرائيل».

ممّا تكشفه التسريبات والتصريحات من تل أبيب، أن قرار «الكابينت» ليس مقدّمة حتمية لاحتلال غزة

وهكذا، يبدو واضحًا أن الائتلاف بات على حافة التصدّع، وأن نتنياهو، وبدلاً من أن يقود حلفاءه، بات أسير توازنات، بين مطالبات متطرّفة لا يستطيع تلبيتها، وضغوط عسكرية ليس في إمكانه تجاهلها، في حين أنه هو لا يمتلك رؤية إستراتيجية واضحة، بل يتحرّك ويقرّر وفقاً لضغوط لحظيّة: داخلية من شركائه، وخارجية من الولايات المتحدة، وعسكرية من الجيش، وشعبية من عائلات الأسرى والجمهور. وفي خضمّ كلّ ذلك، يَظهر أن رئيس الحكومة يستهدف، عبر طرح خطّة الاحتلال، تصوير نفسه أمام الجمهور اليميني في صورة القائد الحازم الذي «لا يستسلم»، في الوقت الذي يُماطل فيه في تطبيق خطّته عبر تبنّي الشروط التي يفرضها الجيش بخصوصها، ما يتيح له «شراء الوقت»، والإبقاء على الأزمة مفتوحة.

وعلى أيّ حال، يبقى العامل الأميركي حاسماً في هذا الإطار، علمًا أن التصريحات الصادرة من واشنطن تشير إلى عدم ممانعة الأخيرة قرار الاحتلال من حيث المبدأ، شريطة أن يترافق مع إجراءات إنسانية، من مثل إدخال مساعدات وإقامة مراكز إغاثة، والأهمّ، تجنّب المشاهد التي تُظهر إسرائيل بمظهر المُسبّب للمجاعة، وهو ما يستهدف في نهاية المطاف الحفاظ على الصورة العامة للولايات المتحدة، وتفادي التورّط في اتهامات بدعم جرائم حرب. على أن المفارقة، أن «الشرط الأميركي» هذا، يمثّل، في الوقت نفسه، عائقاً أمام خطة نتنياهو، كونه يُلزم إسرائيل بخطوات مسبقة طويلة ومعقّدة، ما يُعطي مساحة للوساطة، ويولّد فرصة لإنهاء الحرب وليس الاستمرار فيها وتصعيدها.

بالنتيجة، يتّضح أن قرار «الكابينت» ليس مقدّمة حتمية لاحتلال غزة، بل «تسوية تفاوضية» بين مواقف متضاربة. فهو لا يرضي الجيش لأنه يفرض عليه مهمّة مستقبلية لا يريدها، ولا يغري اليمين المتطرّف لأنه لا يذهب بعيداً بما يكفي، كما لا يلبّي مطالب «المجتمع الدولي» بالنظر إلى أنه يحمل بذور كارثة إنسانية جديدة – باتت محرجة للدول الغربية -؛ ولكنه يبدو ملائمًا لنتنياهو، باعتبار أنه يمنحه هامشاً للمناورة، ووقتاً للبقاء السياسي. إلا أن ذلك لا يعني أن الجيش لا يعمل على تطبيق الخطة، وإن حرص على إبقاء الحرب في حالة توازن ولا يقين حول ما سيلي، وبلا نهايات واضحة.

والسؤال الآن هو: ماذا بعد؟ المرجح أن يظلّ قرار احتلال غزة رهينة أربعة متغيرات:
– موقف المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، التي يعني تمسّكها بشروطها ومطالبها، تجميداً عمليّاً للخطّة؛
– اشتداد الضغوط الأميركية بما يؤدي إلى فرض «خطّة بديلة» لا تشمل احتلال غزة؛
– نجاح الضغوط المصرية والقطرية على حركة «حماس» في الدفع نحو سيناريو لا يعود معه الاحتلال نفسه ضروريّاً؛
– تصاعد الاحتجاج والغضب الشعبي في الداخل الإسرائيلي، بما يجبر نتنياهو على سحب فكرته، والتوجّه إلى تسوية.

عن الاخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب