هم صوت فلسطين

هم صوت فلسطين
منذ السابع من تشرين الأول 2023، لم يتوقّف البثّ المباشر في معظم القنوات التلفزيونية الإخبارية، وعلى رأسها «الجزيرة»، لتغطية الحرب على غزة، الأمر الذي كلّف القنوات الإعلامية أثماناً كبيرة، دفعتها بأرواح صحافييها، فاستشهد لـ«الجزيرة» وحدها 11 صحافياً.

منذ السابع من تشرين الأول 2023، لم يتوقّف البثّ المباشر في معظم القنوات التلفزيونية الإخبارية، وعلى رأسها «الجزيرة»، لتغطية الحرب على غزة. هذا البثّ المستمرّ كل هذا الوقت، كلّف القنوات الإعلامية أثماناً كبيرة، دفعتها بأرواح صحافييها، فاستشهد لـ«الجزيرة» وحدها 11 صحافياً، عدا عن الذين تعرّضوا لإصابات خطيرة.
وفي المساء المتأخّر ليوم 10 آب الجاري، استهدف طيران الاحتلال، خيمة الصحافيين قرب مستشفى الشفاء، ما أدّى إلى استشهاد 6 صحافيين، هم:
• أنس الشريف، مراسل «الجزيرة»،
• محمد قريقع، مراسل قناة «الجزيرة».
• إبراهيم ظاهر، مصور صحافي،
• مؤمن عليوة، مصور صحافي،
• محمد نوفل، مساعد مصور صحافي،
• محمد الخالدي، يعمل مع منصة «ساحات».
منع التغطية
خلال مدة الحرب المستمرة، لم توافق إسرائيل على دخول صحافيين أجانب أو عرب إلى قطاع غزة، واعتمدت معظم وكالات الأنباء والمؤسسات الإعلامية على صحافيين من أبناء قطاع غزة. ما دفع 129 مؤسسة إعلامية عربية وعالمية عريقة، أن تطالب، عبر رسالة مفتوحة (وجهت في 5 حزيران الماضي) بمبادرة من منظمة «مراسلون بلا حدود» و«لجنة حماية الصحافيين»، الاحتلالَ بالسماح بدخول «فوري ومستقل وغير مقيد» لوسائل الإعلام إلى غزة، وتوفير الحماية الكاملة للصحافيين الفلسطينيين في القطاع الذين، بحسب الرسالة، «يواجهون تهديدات مستمرة لحياتهم بسبب قيامهم بعملهم»، وشدّدت على أن «هذا اعتداء مباشر على حرية الصحافة والحق في الحصول على المعلومات».
أدخلت إسرائيل عدداً من الصحافيين الأجانب إلى قطاع غزة، برفقة جيشها، وادّعت أن التغطية برفقة قواتها «كافية» بحسب صحيفة «هآرتس» التي قالت في افتتاحية في أيلول 2024، بعنوان «لم تخشَ إسرائيل دخول صحافيين أجانب إلى غزة؟ ما الذي تخفيه؟»: «من المهم وجود صحافيين يغطون ما يحدث من دون ضغط مجتمعهم وحكوماتهم، وإن دور مراسل يعمل في الميدان بات أهم من أي وقت مضى خاصة في حروب السنوات الأخيرة، إذ باتت أي لقطة مثار شك بسبب تطور الذكاء الاصطناعي وقدرته على توليد الصور».
منع الصحافيين من الدخول إلى قطاع غزة، «وفّر» لإسرائيل إمكانية «تكذيب» كل رواية تخرج من صحافيي غزة، ضمن تغطية الحرب. وأصبحت الرواية التي «يجب» على الإعلام الغربي تداولها هي تلك التي عاد بها الصحافيون الذين دخلوا مع الجيش إلى غزة، فقدموا ما يريهم الجيش وفق روايته هو، في منع تام لتغطية مستقلة للأحداث.
تهديد وقتل
معظم الصحافيين في قطاع غزة تعرّضوا لتهديدات، ومنهم مراسل الجزيرة أنس الشريف. قال في إفادته لنقابة الصحافيين الفلسطينيين: «منذ اندلاع الحرب سنة 2023، تعرّضتُ لعشرات التهديدات من جانب جيش الاحتلال الإسرائيلي، بدأتْ منذ الشهر الأول. وتم تنفيذ أولى هذه التهديدات عبر استهداف مباشر لمنزلي ومنزل عائلتي، وهو ما أدّى إلى استشهاد والدي، ثم تكررت الاستهدافات عدة مرات بعد ذلك».
على غرار ما حدث مع الشريف، حدث مع مراسل «الجزيرة» أيضاً، وائل الدحدوح، الذي أصيب في 15 كانون الأول 2023 إصابة خطيرة، واستشهد زميله المصور سامر أبو دقة، بعد أن استشهدت زوجته أمينة، وأطفاله محمود وشام، وحفيده الطفل آدم، إضافة إلى ثمانة أقارب آخرين يوم 25 تشرين الأول 2023. وغيرهما من الصحافيين، استهدفوا مع عائلاتهم في منازلهم، أو مراكز الإيواء.
نحو 407 صحافيين استشهدوا منذ بدء الثورة الفلسطينية عام 1965 حتى مساء الأحد عدا نحو 180 حالة اعتقال واحتجاز بين صفوف الصحافيين منذ بدء الحرب
هذا التهديد، والتنفيذ، أدّى إلى استشهاد 238 صحافياً (من دون حساب العائلات)، وفقاً لبيان الإعلام الحكومي في قطاع غزة، يوم 11 آب الجاري، وهو رقم مرجح للارتفاع في كل يوم، مع استمرار استهداف قطاع غزة، وتنفيذ الخطة التي أقرها «الكابينت» المتعلقة باحتلال مدينة غزة بالكامل، وتهجير سكانها نحو الجنوب. خاصة وأن الاحتلال يسعى، مع كل استهداف لصحافي، في تعطيل إمكانية نقل الأحداث المروعة، وتعتيم المشهد بالكامل، فيكون مفتوحاً على إمكانية التأويل والتفسير، من دون أن يكون مستنداً على خبر نقله صحافي محترف لوسيلة إعلام لها وزنها وقيمتها في العالم، تحديداً تلك الناطقة بعدة لغات، على رأسها الإنكليزية.
قتل ممنهج
لم يكن هناك شك بأن اغتيال الصحافية في «الجزيرة» شيرين أبو عاقلة في أيار 2022، كان اغتيالاً ممنهجاً، وليس ناجماً عن عدم معرفة الجندي الذي استهدفها، بهويتها. لكن بعد الحرب الحالية، أصبح كل اغتيال يؤكد سابقه، فمنذ أسر أو قتل الصحافي نضال الوحيدي الذي فقد أثره يوم 7 تشرين الأول 2023، واستهداف الصحافيين منذ الأيام الأولى للحرب، ومنع الصحافيين من دخول قطاع غزة، واستهداف الطواقم الصحافية في جنوب لبنان واستشهاد الصحافي من وكالة «رويترز» عصام عبدالله، واستشهاد مراسلة قناة «الميادين» فرح عمر والمصور ربيع معماري، واستهداف مقر إقامة مجموعة من الصحافيين العاملين في مؤسسات محلية وعربية في حاصبيا جنوبي لبنان، الذي أسفر عن استشهاد المصور غسان نجار ومهندس البث محمد رضا من «الميادين»، والمصور وسام قاسم من قناة «المنار»، تأكّد المؤكد أكثر، وتبيّن أن قتل هؤلاء ممنهج، ومخطط له بعناية، ومعروفة أهدافه، متمثلة في حجب الحقيقة كعنوان وشعار.
الجديد الوحيد في استهداف خيمة الصحافيين الأحد، هو تأكيد جيش الاحتلال استهداف الشريف، الذي ادعى أنه لم يكن صحافياً «بل كان عنصراً حمساوياً يعمل بغطاء صحافي». هذا النوع من الاستهداف ليس جديداً بالنسبة للصحافيين الفلسطينيين، فقد بلغ، بحسب وكالة الأنباء الفلسطينية «وفا»، نحو 407 صحافيين، استشهدوا منذ بدء الثورة الفلسطينية عام 1965 حتى مساء الأحد، عدا نحو 180 حالة اعتقال واحتجاز بين صفوف الصحافيين منذ بدء الحرب.
لا بد من خاتمة
أكّدت الأمم المتحدة، على لسان عدد من مقرّريها الخاصين، أنّ الهدف من الاستهداف الممنهج للصحافيين والصحافيات في قطاع غزة، هو تغييب الحقيقة. وقالوا، في بيان صدر عنهم السنة الماضية، إن «عمليات القتل والإصابة والاعتقال هي استراتيجية متعمّدة من قِبل القوات الإسرائيلية لعرقلة وسائل الإعلام وإسكات التقارير الناقدة».
ما سبق، يشير إلى نقطة رئيسية، وهي قيمة الصحافة في مكان كفلسطين، وقيمة الكادر الصحافي الفلسطيني المتمكّن من أدواته، وقدرته الفعلية على نقل الصورة الصحيحة بمهنية، وبمعزل عن كونه كفلسطيني مستهدف في حياته وحياة عائلته وبيته. وهذا التمكّن لدى هؤلاء الصحافيين، أعطاهم السبق، لا الصحافي، بل السبق الريادي بجعل العالم يخرج إلى الشوارع رفضاً وتنديداً بالحرب المستمرة، فالحقيقة كل الحقيقة تقول إنه لولا الصحافيين في قطاع غزة لكانت الإبادة مستمرة بصمت.
* كاتب فلسطيني
أبو صلاح
لا يميّز الموت بين أحد وآخر، لكنّ الأحياء أحياناً يميّزون. استشهد الصحافي الفلسطيني، أنس الشريف وهو من بين الصحافيين الذين ستضجّ الصحافة العالمية باسمه لمدّة من الزمن وسيصبح موته مثالاً يُضرب بسهولة للتدليل على «الاغتيالات الموجّهة» إلى الصحافيين، بسبب صيته الذائع وربما أسلوبه الناجح والعفوي في نقل الأخبار عبر «الجزيرة» التي بدأ العمل معها قبل عامين تقريباً، فبرز اسمه علماً في تغطيته للحرب.
من مواليد 1996، بدا في بداية ظهوره صحافياً متواضع الإمكانيات، تجربته ضعيفة. لكنه سرعان ما تماسك، وتمالك نفسه وبدأ يظهر واثقاً من إمكانيّاته وقدراته وحرصه على نقل المعلومة دقيقة صافية من كل رأي وانحياز وهنا بدأت تظهر ملامح الشاب سريع التعلّم والأهم، الشاب الذي يشعر بمسؤولية الكلمة ومسؤولية إيصالها بدقّة لا تشوبها شائبة، لإدراكه أنّ الاحتلال ينتظر مثل هذه الأخطاء والهفوات، حتى يروّجها ويستخدمها لتفنيد رواية فلسطينية محكمة بحكم الأمر الواقع.
الحرب التي غطّاها أنس حتى مساء الأحد 10 آب 2025، كبّرت من إمكانياته وجعلته مصدراً لا يمكن الاستغناء عنه ولا سيّما في تغطية شمال قطاع غزة. فالمتابع لقناة «الجزيرة»، يدرك أنّ أنس كان لا يتجنّب المخاطر، وكان يتحرّك في كل مكان، حيثما تلقي الطائرات حممها، في البيوت والمدارس والمستشفيات ومراكز الإيواء.
هذا الشاب الصغير، الذي كان ينتظر موعداً مع الموت قريب، كتب وصية بالغة الأهمية، قال فيها: «هذه وصيّتي، ورسالتي الأخيرة.
إن وصلَتكم كلماتي هذه، فاعلموا أنّ إسرائيل قد نجحت في قتلي وإسكات صوتي». وقال: «يعلم الله أنني بذلت كل ما أملك من جهدٍ وقوة، لأكون سنداً وصوتاً لأبناء شعبي، مذ فتحتُ عيني على الحياة في أزقّة وحارات مخيّم جباليا للّاجئين، وكان أملي أن يمدّ الله في عمري حتى أعود مع أهلي وأحبّتي إلى بلدتنا الأصلية عسقلان المحتلة (المجدل) لكنّ مشيئة الله كانت أسبق، وكان حكمه نافذاً». وأضاف، بعد أن أوصى بفلسطين وأهلها، وأولاده شام وصلاح وأمه وزوجته: «اللّهم تقبّلني في الشهداء، واغفر لي ما تقدّم من ذنبي وما تأخّر، واجعل دمي نوراً يُضيء درب الحرّية لشعبي وأهلي».