تبعية طوعية بلا عائد: مصر تعمّق ارتهانها لـ«الغاز الإسرائيلي»

تبعية طوعية بلا عائد: مصر تعمّق ارتهانها لـ«الغاز الإسرائيلي»
توسّع مصر استيراد الغاز الفلسطيني المنهوب من الاحتلال، في صفقة طويلة الأجل تعمّق ارتهانها للطاقة الإسرائيلية وتضعف سيادتها وأمنها الإستراتيجي.

القاهرة | لم يكن الإعلان عن توقيع أكبر صفقة غاز في تاريخ العلاقات بين مصر وإسرائيل، أخيرًا، حدثًا اقتصاديًا فحسب، بل خطوة سياسية عميقة الدلالة تكشف مدى الارتهان الذي وصلت إليه المنظومة الحاكمة في مصر لمصادر الطاقة الإسرائيلية، على حساب مصالح الشعب وأمنه الإستراتيجي.
هذه الصفقة، التي تمتدّ حتى عام 2040 وتبلغ قيمتها 35 مليار دولار، تقضي باستيراد 130 مليار متر مكعب من الغاز المستخرج من حقل «ليفياثان» الواقع قبالة السواحل الفلسطينية المحتلة، في وقت تواصل فيه إسرائيل حرب الإبادة على قطاع غزة. ورغم حساسية التوقيت والظرف الإقليمي، مرّ الاتفاق بصمت رسمي شبه كامل، وكأنه إجراء روتيني في سياق «التعاون الاقتصادي»، بينما هو في جوهره تكريسٌ لمعادلة الطاقة التي تجعل مصر رهينة لقرار الاحتلال.
على أن هذه الصفقة لم تكن مفاجئة وليست وليدة اللحظة، بل تأتي كحلقة متأخّرة في مسار بدأ قبل أكثر من عقد ونصف عقد، حين كانت مصر تصدّر الغاز إلى «إسرائيل» بأسعار بخسة كبّدتها خسائر تجاوزت 700 مليون دولار، قبل أن تسقط الاتفاقية بعد أحداث «يناير 2011»، إثر استهداف خط الأنابيب في سيناء مراراً، وبروز دعوة قضائية قاد حكمُ المحكمة فيها إلى وقف الاستيراد.
لكن سرعان ما عادت المياه إلى مجاريها في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي وافق على تسوية تلزم القاهرة دفع نصف مليار دولار تعويضاً لتل أبيب، ثم وقّع عام 2018 اتفاقاً جديداً لاستيراد الغاز من حقلَي «تمار» و«ليفياثان»، رغم إعلان الحكومة وقتها تحقيق الاكتفاء الذاتي عقب تشغيل حقل «ظهر».
هكذا، غُرست بذرة تحوّل مصر من مُصدّر إلى مستورد، وفُتحت الطريق لهيمنة الغاز الفلسطيني المنهوب على جزء متزايد من السوق المصرية. فمنذ بدء الضخ في كانون الثاني/ يناير 2020، ارتفعت واردات مصر من الغاز الفلسطيني المنهوب بوتيرة لافتة، لتصل في العام الماضي إلى أكثر من 10 مليارات متر مكعب سنوياً، أي ما يعادل نحو 30% من احتياجاتها من الطاقة.
ومع تراجع إنتاج حقل «ظهر»، نتيجة الضغط المفرط على معدّلات الاستخراج وتسرّب المياه إلى بعض الآبار، لجأت الحكومة إلى سدّ الفجوة بزيادة الاعتماد على الغاز الفلسطيني المنهوب، إلى جانب استيراد شحنات الغاز المُسال من السوق العالمية بأسعار مرتفعة. لكن هذه السياسة أوقعت البلاد في دائرة مفرغة؛ فالالتزامات التعاقدية الطويلة الأجل، وخاصة بند «خُذ أو ادفع» الذي يلزم القاهرة دفع ثمن الكميات المتفق عليها حتى لو لم تُستهلك، تجعل من أي محاولة للتقليل من الاعتماد على إسرائيل أمراً بالغ الكلفة مالياً وسياسياً.
وبدوره، مثّل الاتفاق الجديد مع «ليفياثان» توسعةً ضخمة للاتفاقيات السابقة، فيما جرى تعديل شروطه بإلغاء بند كان يتيح لمصر خفض الكميات المستوردة في حال انخفض سعر النفط دون 50 دولاراً للبرميل. ويعني هذا أن مصر باتت مُلزمة بدفع القيمة الكاملة للصفقة حتى لو انهارت الأسعار عالمياً أو وجدت بدائل أرخص. ومع إضافة خط أنابيب جديد وزيادة الطاقة الإنتاجية للحقل إلى أكثر من الضعف، تصبح قدرة إسرائيل على التحكم في تدفّقات الغاز إلى مصر أكبر من أي وقت مضى – في ظلّ سجل سابق من الانقطاعات المتكرّرة التي تسبّبت في أزمات كهرباء كان آخرها الصيف الماضي -، الأمر الذي لا يمثّل خطورة اقتصادية فحسب، وإنّما يخلق أيضاً أداة ضغط سياسية مباشرة بيد الاحتلال في أي نزاع أو خلاف.
البديل الحقيقي يبدأ باستعادة السيطرة على الموارد الوطنية، وتنويع الشركاء بعيداً من منظومة الهيمنة
وعلى أي حال، لا يقلّ البعد السياسي خطورة عن ذاك الاقتصادي. فالصفقة تأتي بينما تقود إسرائيل حملة عسكرية لتدمير قطاع غزة وإخضاعه، وتواصل توسيع احتلالها للأراضي الفلسطينية؛ وبالتالي، يمنحها استيراد الغاز منها، في هذا التوقيت بالذات، مليارات الدولارات التي تدعم اقتصادها وحربها، ويعطيها ورقة ضغط على مصر التي تلعب دور الوسيط في ملف غزة، بما يضعف موقع الأخيرة التفاوضي، ويناقض، في الوقت نفسه، موقف القاهرة الرسمي المعلن ضد الإبادة الجماعية.
وفيما جاءت تبريرات الحكومة المصرية مكرّرة ومحدودة الإقناع: «تنويع مصادر الطاقة»، و«التأمين الإستراتيجي»، و«تحويل مصر إلى مركز إقليمي لتجارة الغاز»، يشير الواقع إلى أن بدائل الغاز ليست معدومة وفق ما يُروَّج له؛ إذ ثمّة إمكانات لاستيراد الغاز من قطر أو الجزائر أو حتّى إيران، ومشروعات قائمة لاستقدام الغاز القبرصي من حقلَي «أفروديت» و«كورونوس»، إضافة إلى رفع إنتاج الحقول المحلية المتقادمة كما حدث أخيراً في الصحراء الغربية. غير أن هذه الخيارات تتطلب استثمارات وتفاوضاً أكثر صرامة، وهو ما لم تُبدِ القاهرة استعداداً لتحمّله، مفضّلةً الخيار الأسرع وإن كان أكثر ارتهاناً سياسياً.
وعلى الصعيد المعيشي، لم يُترجم الاعتماد على الغاز الفلسطيني المنهوب، تحسّنًا ملموسًا في حياة المواطنين. ورغم القفزة في وارداته، إلى جانب واردات الغاز المسال من مصادر أخرى، ظلّت سياسة تخفيف الأحمال الكهربائية قائمة لفترة طويلة خلال الصيف الماضي – متراوحةً بين ساعة وثلاث ساعات يومياً -، مع توقف إمدادات الغاز لمحطات صناعية إستراتيجية عند أي اضطراب في التدفقات.
وهذا العجز يعكس حقيقة أن المشكلة أعمق من مجرد نقص الإمدادات؛ إذ إنها ترتبط بسوء التخطيط والالتزام المفرط بعقود التصدير إلى أوروبا التي تتقدم على تلبية الطلب المحلي، بحثاً عن العملة الصعبة، حتى لو كان الثمن إظلام البيوت وتعثّر الإنتاج. وإلى جانب ذلك، تفرض البنية التحتية الحالية، بدورها، حدوداً على ما يمكن استيراده أو ضخّه؛ فسعة خط العريش – بورسعيد، مثلًا، لا تتجاوز 1.4 مليار قدم مكعبة يومياً، ولن يكتمل مشروع الخط الموازي لزيادتها قبل 2027، فيما يظل مشروع خط «نيتسانا» البري المؤجل حتى 2028، رهينة خلافات مع الشركاء الإسرائيليين. وهذه القيود تجعل من الصعب تلبية الزيادات المعلنة في الصفقة من دون استثمارات إسرائيلية جديدة، الأمر الذي من شأنه أن يعزّز ارتباط أمن الطاقة المصري بقرارات الاحتلال.
وعلى المدى البعيد، سيجعل استمرار هذا المسار، مصر، أسيرة لمعادلة طاقة مختلة، تتراجع فيها سيادة القرار الوطني أمام شروط عقود طويلة الأجل مرتبطة بالاحتلال. ومع كل تراجع في الإنتاج المحلي أو تعطّل في الإمدادات، ستدفع القاهرة المزيد لضمان استمرار الضخ، بينما تتآكل قدرتها على الاستثمار في بدائل مستقلة.
وفي ظلّ غياب خطة جادة لاستغلال الحقول الجديدة أو إعادة التفاوض على الشروط المجحفة، سيظل الشعب المصري يدفع ثمن خيارات لم يكن له رأي فيها، سواء عبر ارتفاع الأسعار أو احتمال عودة انقطاع الكهرباء. وعليه، فإن معالجة أزمة الطاقة المصرية لا يمكن أن تمرّ عبر تعميق الارتهان لمصدر واحد، خصوصاً إذا كان هذا المصدر هو الاحتلال الصهيوني الذي ينهب ثروات الشعب الفلسطيني.
أمّا البديل الحقيقي، فيبدأ باستعادة السيطرة على الموارد الوطنية، وتنويع الشركاء بعيداً من منظومة الهيمنة، وتوجيه الاستثمارات لرفع كفاءة الإنتاج المحلي، مع إعادة ترتيب أولويات التصدير بما يضمن أن يبقى احتياج المواطن المصري في الصدارة. ودون ذلك، ستظلّ كل صفقة جديدة، مهما كانت قيمتها، حلقة أخرى في سلسلة التبعية التي تُغلق على مصر وشعبها دائرة ضيقة يصعب الفكاك منها.
النهار