
آخر فيديوهات السويداء.. سوريا الدولة المتوحشة!

راشد عيسى
جمهور السوريين تحت الصدمة مجدداً، فهناك فيديو جديد يوثق ويكشف عن حجم المجزرة المرتكبة في السويداء، المدينة الجنوبية ذات الأغلبية الدرزية.
حجم الإجرام والانتهاك، ليس مفاجئاً، فقد مرّ ما هو أفظع في الساحل السوري، وفي غير مكان، لكن المفاجئ للجمهور دقة التوثيق، خصوصاً بالنظر إلى معطيات موازية تدعم الفيديو.
الحجج المضادة لفيديو مشفى السويداء جاءت فاضحة بقدرتها على محاكاة حجج النظام الأسدي البائد، ضحايا الأمس يقلّدون شبيحة النظام السابق وذبابه الإلكتروني
يصور الفيديو، المأخوذُ من كاميرا مراقبة، كيف جمع مقاتلون يرتدون زياً عسكرياً موحداً (اللباس المألوف للأمن العام الحكومي) الكادرَ الطبي لمشفى السويداء الوطني في أحد ممرات المشفى. أُجبر هؤلاء على الجثو، قبل أن يشتبك أحدهم (كان واقفاً لم يجثُ) باليد مع أحد العناصر (الفيديو بلا صوت)، فيعمد الأخير لقتله على الفور برصاصتين، ثم يتوجّه بالحديث، وغالباً بالتهديد، إلى باقي الكادر الطبي الذي ما زال جاثياً في الممر، ولا كأنه ارتكب جريمة للتو.
الأكثر إنصافاً من بين المدافعين عن السلطات سيعترف بوقوع جريمة لا بد من محاسبة فاعلها، تكرار لأكذوبة الخطأ الفردي.
خيط الدم
لكن الحقيقة المروعة، والتي باتت مؤكدة مع عدد كبير من الفيديوهات السابقة، أن المجزرة تكشف عن ماهية النظام الحاكم، تركيبته، توجهاته، معنى الحقوق والانتهاكات بالنسبة له. فالأسئلة والانتهاكات في هذا الفيديو وحده عديدة؛ لماذا يجري تركيع كادر طبي في مشفى؟ بأي حق يُقتحم مشفى بالأساس؟ لاحظوا السهولة التي يجري فيها إعدام ممرض (وبالمناسبة؛ حتى لو كان الممرض المتطوع مقاتلاً متخفياً، كما يزعم الزاعمون، هل من حقكم إعدامه ميدانياً قبل اعتقاله ومساءلته؟ لكن لو كان مقاتلاً متخفياً بالفعل لاحتفظ بمسدس، ما دام لم يتأخر في الدفاع عن نفسه بذراعه العارية)، ثم انظروا سهولة القتل، لقد أطلق المجرم النار ثم تابع حديثه متوجهاً للكادر الطبي، لم يظهر أنه بوغت بما ارتكبت يداه، كما لم تظهر أي مفاجأة لدى عصابة القتلة، الشركاء، لقد تابعوا كما لو أن ما فعلوه اعتيادي ويومي (عذراً لتكرار هذه الحقيقة، فهي مكررة أيضاً في مختلف الفيديوهات التي تصور جرائمهم). كذلك الأمر حين سُحل الممرض المقتول للتو، تاركاً خيط دم طويلاً على بلاط المشفى، هناك سهولة وتمرّس.
ما من سبيل لإنكار الجريمة، فعدا عن الفيديو الساطع، سيكون الكادر الطبي للمشفى جميعهم شهوداً على الجريمة، وسرعان ما ستأتي شهادة الطبيب في المشفى سلطان أبو حمدان، وقد تحدث بتفصيل عن اقتحام الأمن العام ومقاتلي وزارة الداخلية (أنكر وجود عشائر أو فصائل منفلتة، بل أمن عام على بدلاتهم علم سوريا وعلم داعش)، عن احتجاز الكادر الطبي، عن منعهم من أداء واجبهم تجاه المرضى، عن إهانات وكلام طائفي بحق الدروز، عن قتلٍ لمرضى، أو حتى لعائلاتهم وذويهم، أو إطلاق النار على أرجلهم، بل حتى عن قص شاربي شيخ مريض بمشرط استعاروه من أدوات المشفى (اُنظر إلى أي حد هم هادئون، يرتكبون جريمتهم بدم بارد، وبلا أعصاب). ولا حاجة لإثبات ما قاله الطبيب أبو حمدان ما دامت فيديوهات أخرى سابقة من كل مكان في المحافظة الجنوبية تؤكد الحقائق نفسها حرفياً.
الحقيقة المروّعة أن المجزرة تكشف عن ماهية النظام الحاكم، تركيبته، توجهاته، معنى الحقوق والانتهاكات بالنسبة له
حجج مضادة
الحجج المضادة لفيديو مشفى السويداء جاءت فاضحة بقدرتها على محاكاة حجج النظام الأسدي البائد، ضحايا الأمس يقلّدون شبيحة النظام السابق وذبابه الإلكتروني. لا عجب أن يظهر محلل سياسي على «تلفزيون سوريا» فيسأل، بعد أن يدين الجريمة بشكل عام ويطالب بالمحاسبة (كلام فارغ يقوله الجميع)، عن إمكانية التحقيق والمحاسبة وصعوبتهما، وهو هنا يلمح إلى ضرورة تسليم المدينة للسلطات، ما يعني لوماً للضحايا على ما ارتُكب بحقهم، ثم يسأل سؤاله الأكبر الذي كرره آخرون لاحقاً: لماذا نشر هذا الفيديو الآن؟ عشية انعقاد اجتماع في عمّان، سوري – أردني – أمريكي، لبحث أوضاع السويداء وإعادة الإعمار؟ يريد السيد المحلل أن يفحمنا بوجود مؤامرة كونية ومجسمات وخلافه.
بدلاً من المراجعة والتأمل، راح الجمهور الموالي، ومعه صحافيون ومحللون سياسيون، يبثون أخباراً زائفة مكشوفة للغاية، فهذه صورة لشاب بثياب المشفى يحمل سلاحاً، ما يعني أن شهيد المشفى ما هو إلا مقاتل متنكر بملابس الكادر الطبي، كذبة إن لم تفلح في إقناع الجمهور فهي ستشغله عن التحديق بفظاعة الجريمة، وهذا شأن كل التزييفات المبثوثة هنا وهناك. كما جاء في منشور لأحد عتاة المدافعين عن السلطة الجديدة، عندما، بعد وقت قليل من نشر الفيديو، تحدث عن «قتل شخص مهندس، قيل إنه من كوادر المستشفى، إثر قيامه بالهجوم على أحد عناصر الأمن العام»، و»جريمة مدانة يجب التحقيق بها ومحاسبة مرتكبها».. ولا يخفى الغرض هنا من كلمات «قيل» بعد «شخص مهندس»، والتأكيد على أنها جريمة فردية ارتكبها شخص. ولا ندري كيف سينظر الإعلامي الشبيح لبيان صدر لاحقاً عن وزارة الداخلية التي بدت أكثر تعقّلاً، فوصفت الفيديو بـ «المؤلم»، وأدانت واستنكرت «بأشد العبارات»!
خطورة الفيديو الأخير إثباته أن المجزرة ليست مجرد خطأ فردي، وأن السلطات الجديدة لم تبذل جهداً في تجنب الانتهاكات، وربما كل ما حاولته تكسير كاميرات المراقبة (لنتذكر كيف كان دأب نظام الأسد اعتقال أصحاب الهواتف الجوالة من بين المتظاهرين)، أو التشكيك بصحة الحقائق. أن القتل والإذلال والنهب جزء من التركيبة الحاكمة، ولم يعد بالإمكان إنكاره، أو تزيينه باستثمارات ومشاريع كبرى وغاز وكهرباء وبوابات إعلامية زائفة.
حاوَلوا تكسير كاميرات المراقبة. لنتذكر كيف كان دأب نظام الأسد اعتقال أصحاب الهواتف الجوالة من بين المتظاهرين
تكرار مجزرة الحولة
عندما يقال لكادر طبي ومرضى في مشفى: «أتعرفون مجزرة الحولة؟ اليوم ستتكرر، ولكن بكم»، ثم تخرج المجزرة من حيز التهديد إلى الفعل والارتكاب، ستعرف أن المجزرة نهج، عن سابق إصرار واختيار وقصد. ستعرف أننا بتنا حقاً في «سوريا الدولة المتوحشة» (والتعبير أطلقه الراحل الفرنسي ميشيل سورا في وصف سوريا الأسد).
كل ذلك من دون أن تسمع للرئيس الانتقالي صوتاً جاداً بمواجهة المجازر المتنقلة (ليس بالوسع نسيان شكره للعشائر في أول خطاب بعد اشتباكات السويداء).
كان بودنّا القول، إثر فيديو مشفى السويداء: «كلنا محمد بحصاص»، الممرض المتطوع الأعزل الذي دافع عن نفسه وعن كرامته بيد خالية من السلاح، ولكن ليس من السهل أن يكون المرء بمثل بطولته، وإن كنا كلنا مشاريع ضحايا، مثله تماماً، مشاريع للقتل والاعتقال والإذلال. مثل عدد هائل من أهل السويداء وعموم البلاد المنكوبة بحكامها.
* كاتب من أسرة «القدس العربي»