مقالات

روسيا ـ أوكرانيا: هل آن الأوان لتثبيت خط الجبهة؟

روسيا ـ أوكرانيا: هل آن الأوان لتثبيت خط الجبهة؟

وسام سعادة

كاتب وصحافي لبناني

كان بالمقدور، التخيل، قبل ردح من الزمن، بإمكانية إبرام تفاهم مديد بين روسيا وأوكرانيا يقوم على صرف النظر عن انضواء الأخيرة في حلف شمالي الأطلسي في مقابل عدم التعرض الروسي لاستقرار أوكرانيا. بات تفاهم «عقلاني» إلى هذه الدرجة قليل الحظ في الواقعية عاما بعد عام. ليس هناك ما يحمل القيادة الروسية الحالية لا على العودة إلى ما قبل غزو الدونباس وخرسون وسواها بدءا من عام 2022 ناهيك عن ضم شبه جزيرة القرم عام 2014. في المقابل استطاعت أوكرانيا رغم كل الضغط الحربي عليها بأن تتجاوز الانقسام اللغوي الصرف بين سكانها، بحيث انحصر الانقسام في حدوده الإثنية الصرف: بين الأوكران، الناطقين سواء بالأوكرانية أو بالروسية، وبين الروس الاثنين. هؤلاء بالتحديد، وبخاصة في الدونباس يفرضون واقعا انفصاليا يصعب تخطيه، إنما هو واقع ما كان بمقدوره الإطباق على كامل الدونباس الى حين التدخل الروسي المباشر الشامل.
من مفارقات الحرب في أوكرانيا، أن موسكو لا تزال تطالب الجانب الأوكراني بالانسحاب من أقاليم أعلنت بنفسها هي ضمها، من جانب واحد، وبعد أشهر من بدء عملية الغزو، دون أن تفلح في السيطرة عليها بالشكل الناجز من خلال ثلاثة أعوام ونصف من الغزو. ومن مفارقات الحرب أن روسيا تطالب بأوكرانيا منزوعة السلاح ومعدومة الصناعة الحربية في وقت حققت فيها كييف تقدما في التكنولوجيا العسكرية في ظروف الحرب، أسفر عن تمكنها من احتلال مناطق من روسيا العام الماضي لشهور طويلة، ومن ثم العملية الأمنية النوعية الضاربة في مناطق مختلفة من روسيا في الأول من يونيو الماضي. المطالبة الروسية بأوكرانيا منزوعة السلاح باتت بعيدة عن الواقعية، مثلها مثل مطالبة أوكرانيا بانسحاب روسيا الى الحدود الدولية.
في المقابل، ثمة تحد راهني عويص لكنه ممكن. يقاس على أساسه نجاح ما يقوم به دونالد ترامب من مساع. وهو العمل على تثبيت خط الجبهة. أي وقف الحرب على أساس خط المواجهة أو القسمة الحالي. وحتى هذا الأمر ليس يسهل تحقيقه. خاصة وأن الفترة الأخيرة شهدت المزيد من الضغط الروسي التوسعي على الجبهة، وأن كييف تضع منذ عامين قتال قواتها في خانة السعي لتحرير المناطق المحتلة.

من مفارقات الحرب في أوكرانيا، أن موسكو لا تزال تطالب الجانب الأوكراني بالانسحاب من أقاليم أعلنت بنفسها هي ضمها

كييف في غير وارد التنازل رسميا عن أي منطقة. موسكو في غير وارد إلغاء قرار ضمها المناطق التي احتلتها، ناهيك عن تلك التي أعلنت ضمها ولم تحتلها تماما بعد. هذا الوضع بحد ذاته يتيح للحرب التواصل بشكل لا تبدو له من نهاية. وهنا بالتحديد يبرز التناقض بين المنظارين الأوروبي والأمريكي. فبالنسبة للعواصم الأوروبية الداعمة لكييف، هذه الحرب تقاس بالقدرة الاستنزافية المتواصلة عاماً بعد عام لروسيا. يجري التصور بأنه سيأتي يوم لن تحتمل روسيا بعده مواصلة الحرب وتدخل آنذاك في منطق تخبطها وانهزامها. المنظار الأمريكي مختلف. لا سيما مع إدارة الرئيس ترامب. إذ يجري الابتعاد عن التصور الجيوبوليتيكي الكلاسيكي، المحاصر للقالب الأوراسي بنماذج نظرية مختلفة، من ماكيندر الى سبايكمان الى برزنسكي، لصالح تصور قائم على محاصرة روسيا بأوروبا، وأوروبا بروسيا بنفس القدر. لا ينطلق ترامب من تصور تكتلي للبلدان الغربية كلها بوجه روسيا، وإنما من تصور تنتزع فيه الولايات المتحدة الاعتراف بصدارتها من الجميع بنفس القدر.
لا يعني هذا أنه بإمكان ترامب أن يضغط لوقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا بنفس الأدوات والأساليب التي استخدمها في جنوب آسيا والشرق الأوسط؛ لكنه ينطلق في المقابل من واقع أكثر إرهاقا: وهو أن الحرب استطالت حتى الآن لأعوام طويلة، واستهلكت موارد مالية وبشرية ضخمة، وما عاد يظهر لها من نهاية منطقية. بالنهاية، لا النظام في كييف سقط ولا إسقاط النظام البوتيني مسألة يمكن التحكم بميعادها وصلة نسبها بالحرب الحالية.
وتحديدا موضوع انهيار النظام البوتيني في روسيا ليس بالشيء الذي يثير لعاب ترامب واليمين الشعبوي عبر العالم. أبدا. هذا من شأنه الترويج لرؤى نشر الديمقراطية – بالمفهوم الأمريكي لخصومهم الداخليين – وهم في غنى عن ذلك، بل يحملون هذه الرؤى مسؤولية جسيمة عن التخبط العالمي.
أما النظام القائم في أوكرانيا فله طبيعته الشعبوية هو أيضا، وهذا يجعله غير قادر على التوقيع على تنازلات ترابية من أي نوع. في المقابل، ما يمكن العمل، ولو بصعوبة على تحقيقه الآن هو وقف العمليات الهجومية وصولا إلى تثبيت خط الجبهة ووقف إطلاق النار مع ترك الحلول السيادية عالقة ومؤجلة. في النهاية، الحدود بين الصين والهند مثلا لا تزال مثبتة بالأمر الواقع ومؤجل تسوية النزاع حولها وذلك منذ حرب 1962 بين البلدين. لا يمكن التعويل على حل نهائي شامل وفي وقت محدد لكل نزاع. بخاصة عندما تتحكم الشعبوية القومية بهذا القدر بطرفي النزاع. بالمقابل، يدرك كل من النظامين، في موسكو وفي كييف، أن ثمة هشاشة داخلية كبيرة في كل منهما سابقة على الحرب، ويمكن أن تظهر نسبيا أكثر إن تراجعت وطأة الحرب وليس العكس.
يبقى أنه، على صعيد أكثر رمزية، استطاع فلاديمير بوتين بالفعل أن يسقط مسعى محموم دام سنوات لعزله، من قبل المجموعة الغربية، قبل أن ينقسم الغرب حول هذا العزل. هنا بالتحديد نجح بوتين في إحداث ثغرة.

كاتب لبناني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب