ثقافة وفنون

يوسف عبدلكي يرسم السبعينيات: بين الجرأة وشفافية التعبير

يوسف عبدلكي يرسم السبعينيات: بين الجرأة وشفافية التعبير

عزيز تبسي

-1-

أصدرت غاليري تانت في بيروت كتابا تكريميا للفنان السوري يوسف عبد لكي، خصصته لمرحلة السبعينيات من مسيرته الإبداعية الممتدة حتى اليوم. وُلد يوسف عبد لكي عام 1951 في مدينة القامشلي، شمال شرق سوريا، وهي مدينة لم يكن لها وجود قبل عام 1923. عاش فيها طفولته وصباه حتى عام 1966، حين انتقل مع أسرته إلى دمشق. هناك تابع دراسته الثانوية، ثم التحق بكلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق، وتخرّج عام 1976 اختصاص غرافيك. بعد عامين من تخرّجه، اعتُقل مع رفاقه في رابطة العمل الشيوعي، وبقي في السجن حتى عام 1980. عقب الإفراج عنه، غادر إلى باريس حيث تابع دراسته العليا في المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة، وحصل عام 1986 على دبلوم في فن الحفر، ثم قدّم أطروحة الدكتوراه في جامعة باريس الثامنة عام 1989.

يمثّل عقد السبعينيات (1970-1980) محطة بالغة الأهمية في مسيرة يوسف عبد لكي الفنية، رغم أنّ السجن اقتطع منها عامين. خلال هذه الفترة، تنوّعت أعماله بين المعارض الفردية والجماعية، وتصميم الملصقات لحركات التحرر الوطني الفلسطيني (مثل فتح والجبهة الشعبية)، إضافة إلى تصميم أغلفة الكتب، والديكورات المسرحية، وملصقات الأفلام، فضلًا عن رسوم الكاريكاتير ورسومات قصص الأطفال. كما تضمّنت تلك المرحلة دراسته في كلية الفنون الجميلة، التي وثّقها الكتاب عبر رسومه التحضيرية، كاشفًا عن ملامح أسلوبه الفني الذي سيبرز لاحقًا في أعماله الناضجة.


-2-
سردية السبعينيات الإبداعية والكفاحية معقدة ومربكة، سياسياً واجتماعياً وإبداعياً. افتتح عقد السبعينيات بمذبحة للمقاومة الفلسطينية في الأردن أيلول/سبتمبر 1970، ووفاة جمال عبد الناصر لا بكونه نهاية بيولوجية للجسد الآدمي، وإنما لأنه تقويض لمرحلة عجز الأنظمة العربية لا عن حل المسألة الوطنية فحسب، بل استنهاضها لهجوم مضاد على الانطلاقة الجديدة لحركة التحرر الوطني العربية، توجت بمذبحة للمقاومة الفلسطينية في الأردن، وامتدت لتصفية الحركات الثورية في السودان بإعدام القائد الشيوعي عبد الخالق محجوب ومجموعة من قيادة الحزب الشيوعي في تموز/يوليو 1971. واستكملت بتحولات داخل الأنظمة العربية، بصعود الاتجاهات الأكثر يمينية وتوافقية مع المشروع الإمبريالي ومرتكزاته في المنطقة العربية، سعت بمناورة لاحتواء الأحزاب الشيوعية بتحالفات جبهوية في سوريا والعراق، أو ضم قياداتها للوزارات في مصر.
تنامت على أطراف المشهد السلطوي، الحوارات والأسئلة، القراءات والنشرات السرية، التي أنتجت مقاربات فكرية متباينة لفهم الهزيمة العسكرية الكارثية في 5 حزيران/يونيو 1967، والبحث في طرائق تجاوزها، والتحولات التي دخلت بها الأنظمة العربية. أدى هذا إلى انقسامات شملت جميع التنظيمات السياسية الكبرى حزب البعث العربي الاشتراكي وحركة القوميين العرب، والأحزاب الشيوعية. في محاولة لإنتاج حالة ثورية، تشتبك بالقضية الوطنية ومدخلها الديمقراطي وموقف نقدي من هيمنة الاتجاهات الإصلاحية والانتهازية على الأحزاب الشيوعية، وبالتفاعل مع التحولات الثورية في فيتنام والانقلابات العسكرية، التي اتخذت منحى تحريريا في إثيوبيا وأفغانستان وأنغولا.. وعزيمة على إيجاد حوامل تنظيمية لمشروع ثوري يحل بشكل حاسم المسألة الوطنية، مقدمة للانتقال إلى استكمال مهامه الثورية الآتية من شرطه الاجتماعي والسياسي.
انتقلت مجموعة من الحلقات الماركسية التي تشكلت نهاية الستينيات، وبدايات السبعينيات في سوريا، إلى تنظيم موحد، عرف برابطة العمل الشيوعي. من قلب مقاربات التنظيم الفكرية والسياسية، وانفتاحها على تجارب اليسار الجديد في البلدان العربية، نمت حركة إبداعية، عكست الرافد الأوسع للتنظيم الجديد الآتي من الجامعات.. ظهرت بواكير إنتاجها بنصوص قصصية وقصائد شعرية برزت منها أسماء، جميل حتمل وعلي الكردي وإبراهيم صموئيل وفرج بيرقدار ووائل السواح، ولوحات فنية ليوسف عبدلكي ومنير الشعراني وغيرهم، ممن كتبوا مئات النصوص ورسموا عشرات اللوحات التي شوهدت لمرة واحدة أو اثنتين، أو شوهدت بعجالة في بيوت أصحابها، قبل أن تدفن بمقابر صمتها وغياب أصحاب في السجون والضياع في المنافي. عالم موار مشحون بحركة احتجاج على انكسارات وطنية وسياسية، رفع بحارته أشرعتهم وحثوا الريح على نجدتهم، لكن الشاطئ الذي انتظرهم كان السجن، أو الهروب منه.


-3-
مساران سارا جنباً إلى جنب في تجربة الفنان يوسف عبدلكي، الخط الإبداعي والخط النضالي. عبّر الأول عن رغبة عارمة بتكوين هوية فنية متميزة، والثاني بالتعبير عن الموقف السياسي. كأننا في هذا الكتاب الاستعادي أمام جدة تستعيد ذكرياتها أمام أحفادها، بفتح صندوق جهاز عرسها. تفيض الروائح وتلمع الأحجار الملونة.. يحضر ماضيها مدججاً بثقل كرات رصاص كأنما الماضي لا يمضي. يتعاقب مع اللوحات تاريخ السبعينيات من جدارية ثلاثية أيلول، وهي مشروع تخرجه من كلية الفنون الجميلة عام 1976، إلى لوحة «تحية إلى معتقلي يوم الأرض» 1976، التي تظهر خيولاً مرمية على ظهورها، بينما سيقانها مربوطة بالحبال. إلى لوحة «سبت الدم» 1976، التي أتت بمنزلة نعوة ومرثية لشهداء المنظمة الشيوعية العربية، الذين أعدموا في دمشق. إلى لوحة «موطني… موطني» عام 1977، التي تصدرها ضابط مخابرات، يشد قبضتيه على ساطور جزار، يظهر على يمينه حبل مشدود إلى عمود تعذيب، وتتدلى خلفه قدمان عاريتان. ولوحتان يستعيد بهما استشهاد المناضل الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو،1977، الذي قتله ضباط المخابرات السورية في 25 حزيران/يونيو 1959، وذوّبوا جسده بالأسيد. يظهر في اللوحة الأولى حوض استحمام منزلي «بانيو» يقف خلفه بوضعيات ساخرة مجموعة من ضباط المخابرات، بينما يظهر في لوحته الثانية طرفاً من البانيو تبرز قدمان طافيتان من السائل الحمضي، تنتظران ذوبانهما كما باقي الجسد، ويقف أمام الحوض ضابط ينظر إلى الأعلى بغبطة، كأنه ينتظر مكافأة. أتت اللوحة من الماضي لتذكر بالمصائر التي تواجه المعتقلين في الحاضر.


تعيدنا لوحة قائمة بأسماء المطلوبين عام 1979، وهي من أعمال السجن، التي يتصدرها ضابط مخابرات يحمل ورقة عليها أسماء المطلوبين، تتوزع خلفه على الجدار صور شخصية للمطلوبين، إلى رواية «قلم النجار» للروائي الإسباني مانويل ريفاس، حين يمنح الرسام قلما ثخينا أحمر الغلاف، يضعه خلف أذنه كما يفعل النجار، الذي كان يرسم على بوابة الكاتدرائية بقطعة من فتات القرميد، لم يرسم التماثيل والرموز الدينية التي تمثل البلاط السماوي، كان يرسم وجوه السجناء بمثابرة، كأنه يلبي طلبية مستعجلة، كل شخصية من الشخصيات المنحوتة على البوابة، كانت تمثل واحداً من أصدقائه في سجن الفالكونا. حاول بها يوسف عبدلكي إن لم يكن تخليد رفاقه السجناء، فللتذكير بهم، فنراهم في اللوحة باللباس العمالي والفلاحي، وصور أعراسهم ولباس الطلاب المتقشف، نرى بينهم في طرف اللوحة صورة ليوسف وزوجته المخرجة السينمائية هالة العبد الله.
تتوزع على صفحات الكتاب تجارب لرسم الخيول وسيقانها وحوافرها، لتظهر مكتملة في صيغتها النهائية خيولاً حرة دوماً، بلا سروج تثقل ظهورها، وأعنة تشد أعناقها وتوجه مسيرتها، وبلا فرسان يثقلونهما معاً. خيول جامحة، شكلت إحدى أدواته للتعبير عن مواقفه وانفعالاته، وملامح هويته. يضج الكتاب بصور الأصدقاء من رفاق التجربة الكفاحية والزمالة الدراسية والمعلمين الجامعيين. ورصد العديد من المذابح، أو حالات القتل الجماعي الذي فاضت به المخيمات الفلسطينية في لبنان. أظهر فيها القتلى كأكداس مترامية فوق بعضها، والساخرون منهم، والراقصون على جثثهم، واقعية مشدودة إلى تاريخ موثق، وقد منحها تأويلات مفتوحة، وتأملات تأتي من قبلها وتذهب إلى ما يليها، معتمداً على اللونين الأبيض والأسود، مكرساً لهما كل طاقته لاستجلاء قوتهما التعبيرية وإظهار جمالهما. ولا يكف عن التكرار منذ خمسين عاما، إنه رسام أكثر من كونه ملوناً. وقد كرسه الفنان إميل منعم في شهادته التي تصدرت الكتاب «ابن التعبيرية بمعناها العميق، تبلغ أعماله حدود الرمز دون أن تصبح رمزية، وتصل إلى مشارف التجريد دون أن تصير تجريدية، وتقيم صلة حميمة مع الواقعية دون أن تندرج في مذاهبها».

كاتب سوري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب