مقالات

هاوية الوحشية: حين يسقط العالم في امتحان غزة

هاوية الوحشية: حين يسقط العالم في امتحان غزة

البشير عبيد – تونس

لم يعد ممكنًا الحديث عن القيم العالمية أو عن “المجتمع الدولي” بنفس النبرة التي كانت تُستخدم قبل سقوط غزة في هاوية الإبادة. هناك شيء ما تحطّم بصورة نهائية، ليس في غزة وحدها، بل في النظام الأخلاقي الكوني الذي طالما تباهى الغرب بصياغته منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ما تشهده فلسطين اليوم ليس فقط حرب إبادة، بل هو إعلان رمزي مدوٍّ عن فشل الحضارة الحديثة في صيانة الحدّ الأدنى من إنسانيتها. لقد صرخ التاريخ من تحت الركام، معلنًا أن الوحشية لم تُهزم، وإنما غيّرت أقنعتها، وأن الأفران النازية لم تُغلق تمامًا، بل نُقلت إلى حدود غزة، تصهر فيها أجساد الأطفال تحت أنقاض الصمت الدولي.

في واحدة من أكثر العبارات صدقًا ومباشرة، تقول المقررة الخاصة للأمم المتحدة بشأن فلسطين، فرانشيسكا ألبانيز: “جيلنا تربّى على أن النازية كانت الشرّ الأعظم، أما اليوم فهناك دولة تُجوّع الملايين وتُطلق النار على الأطفال من أجل المتعة، تحت حماية الديمقراطيات والديكتاتوريات على حد سواء، وهذه هي هاوية الوحشية الجديدة”. لم تكن كلماتها مجازًا سياسيًا، بل تشريحًا صادقًا لسقوط عالمي كامل، حيث فشلت الإنسانية في امتحانها الأخلاقي أمام مجازر تبثّ مباشرة على الهواء، ولا أحد يتحرّك إلا لإدانة من يرفع صوته احتجاجًا.

سقوط الأقنعة: عندما تُداس القيم تحت جنازير الدبابات

منذ أن بدأت آلة الحرب الصهيونية طحن الأجساد في غزة، لم يكن المجتمع الدولي متفرّجًا فقط، بل كان شريكًا فعليًا في الجريمة. صفقات السلاح، بيانات التبرير، التلاعب بالمصطلحات، تجريم المقاومة، تحييد الإبادة، كل ذلك تمّ ضمن مسرحية كونية سمجة، تُديرها عواصم القرار الغربي، وتصفّق لها أنظمة عربية خائفة أو مرتهنة. بل وصل الأمر إلى منع المساعدات، وتضييق الخناق على حملات الإغاثة، وتجريم الأصوات الحقوقية التي قرّرت أن تقول الحقيقة كما هي.

ما كشفته غزة اليوم، هو حجم التواطؤ العالمي مع الوحشية، حين تكون هذه الوحشية صهيونية ومحمية من مؤسسات تدّعي الدفاع عن الديمقراطية. لقد رأينا كيف يمكن للنازية أن تعود، لا عبر الجيوش، بل عبر أنظمة شرّعت للاحتلال، وغطّت جرائمه بقوانين مزدوجة ومعايير متناقضة. فحين تُقتل طفلة فلسطينية ويُحتفى بقاتلها في تل أبيب، ثم يُمنح المجرم شرعية من واشنطن أو برلين أو باريس، فهذه ليست مجرد سياسة منحازة، بل فعل تطبيعي مع الشرّ نفسه، وعودة ناعمة للفاشية في ثياب القانون.

إن أخطر ما يحدث اليوم ليس فقط تدمير البيوت وقطع الماء والكهرباء، بل تحويل الضحايا إلى متهمين، والمجرمين إلى أبطال. وهذا هو الانقلاب الأخلاقي الأكبر، حين يُصبح الصمت سياسة، والتواطؤ دبلوماسية، والنفاق حضارة.

فرانشيسكا ألبانيز: صوت في برّية الوحشية

في هذا المشهد الباهت، يبرز صوت فرانشيسكا ألبانيز كنموذج أخلاقي نادر. ليست فقط مقررة أممية، بل ضميرًا إنسانيًا يرفض الخضوع لمنطق القوة. صراحتها المدوية، ومقارنتها الجريئة بين جرائم النازية وجرائم إسرائيل، أعادت الاعتبار لفكرة أن القانون الدولي يمكن أن يكون حيًا، متى تجرأ حاملوه على قول الحقيقة.

لكن المفارقة أن صوتها، رغم صدقه وبلاغته، يبقى هامشيًا في ضجيج الكذب العالمي. فقد بات من المألوف أن تُدان الأمم المتحدة حين تنتقد إسرائيل، وأن يُتّهم كل من يتحدث عن حقوق الفلسطينيين بمعاداة السامية. هكذا انقلبت المفاهيم، وتحوّل الدفاع عن الحياة إلى جريمة، والاحتلال إلى “حق مشروع”.

ورغم محاولات إسكاتها، صمدت ألبانيز، وتحوّلت تصريحاتها إلى مرآة دامغة للعالم، تعكس بشاعته، وتفضح نفاقه. إنها تُذكّرنا بأن المأساة لا تكمن فقط في أن العالم لا يفعل شيئًا، بل في أنه يفعل كل ما بوسعه كي يستمر القتل بلا مساءلة. ومثلما صرخ إدوارد سعيد ذات مرة بأن “الفلسطيني هو اختزال العالم في وجهه العاري”، فإن ألبانيز تضع هذا الوجه في قلب المأساة، غير آبهة بمنظومة الردع التي تحاول خنق الحقيقة.

المأساة الفلسطينية: اختزال للشرّ المعاصر

حين ننظر في المرآة الفلسطينية، لا نرى فقط مأساة شعب، بل نرى كيف يعيد العالم إنتاج البربرية باسم القانون. إن الذي يُقصف في غزة ليس البشر فقط، بل المعنى نفسه. معنى العدل، ومعنى الحق، ومعنى الكرامة. وحين يُمنح الاحتلال شرعية دولية، وتُمنح المقاومة لائحة اتهام، فإننا أمام حالة عالمية جديدة تُشرعن الشرّ كأداة حكم.

تُذكرنا غزة اليوم بأن الشر لا يحتاج إلى أقنعة جديدة، بل إلى صمت العالم فقط. فحين تسكت الأمم، يتكلم السلاح، وحين تنسحب الإنسانية، تندفع الوحشية. لقد صار مشهد الأطفال المقطّعين والجثث الملقاة تحت الأنقاض جزءًا من دورة الأخبار، يمرّ سريعًا قبل نشرة الطقس أو خبر أسعار النفط. هذا هو الزمن الرديء الذي يحوّل الإبادة إلى خبر عابر، والمجرم إلى شريك في “جهود السلام”.

إن العالم الذي غضّ الطرف عن حصار غزة لسنوات، وسمح بتجويعها، ودعم الاحتلال سياسيًا واقتصاديًا، لا يمكنه اليوم ادّعاء البراءة. فالصمت لا يعفي من الجريمة، بل يؤسس لها، والتواطؤ لا يُنسي الذنب، بل يوسّعه.

فلسطين: الامتحان الأخلاقي الأخير للعالم

نحن أمام لحظة تاريخية حاسمة. ما يحدث في فلسطين ليس شأنًا إقليميًا، ولا نزاعًا حدوديًا، بل هو اختبار أخلاقي كوني. إما أن يُستعاد فيه المعنى الحقيقي للعدالة والحرية، أو نُعلن – بشكل جماعي – نهاية الضمير الإنساني. فلسطين هي آخر معركة للكرامة البشرية، لأنها تختصر كل الصراعات بين الحق والباطل، وبين المقاومة والهيمنة، وبين الإنسان وما يُراد له أن يصير.

لقد سبق أن فشل العالم في رواندا، وصمت في البوسنة، وتواطأ في العراق، لكنه اليوم يُعيد الكارثة أمام أعين الجميع، دون حياء ولا تورية. ليست غزة فقط هي المحاصرة، بل الإنسانية نفسها. ولعل ما قاله أحد الناجين من المحرقة اليهودية، إيلي ويزل، بأن “الحياد في وجه الظلم هو انحياز للمجرم”، يُصبح اليوم أكثر صدقًا حين يُوجَّه إلى عواصم القرار في الغرب والعرب على حد سواء.

ما تبقّى من إنسانيتنا معلق على صمود شعب قرر أن لا يموت بصمت، وأن يفضح القتلة، ويكشف المتواطئين. فلسطين ليست فقط أرضًا، بل ميزانًا أخلاقيًا لكل ما تبقّى من معاني المقاومة. وفي زمن تتبدّل فيه الحقائق وتُشوّه فيه العدالة، تبقى الحقيقة الفلسطينية، رغم الجراح، هي النور الأخير في نفق العالم المظلم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب