تَحـوالت الطقس الجنائزي !!

تَحـوالت الطقس الجنائزي !!
نــجـيب طــالل
مبدئيا هاته المقالة/ الوثيقة: ستفيد أهل علم االجتماع ، وأهل الفن واإلبداع ، من زاوية تناول لقطات
الجنازة والذهاب بها لمثواها األخير]المقبرة[ وخاصة السينمائيين، الذين يكثرون في أفالمهم من هذا
النمط الجنائزي، ألن المشاهد لم تعد هي المشاهد والمفاهيم لم تُعـد هي المفاهيم !وذلك بعد اجتياح وباء
“كورنا ” الذي خلف ما خلف من مآسي وتدمير لالقتصاد المحلي والوطني وتشتيت األسر؛ جراء
وفيات وقتـل وطالق وبطالة وهروب من بيت الزوجية ، نتيجة اهتزازأو انعدام الدخل الفردي؟ وهذا
تحول رهيب وقع في أغلب المجتمعات، وامتد حتى للطقوس والعادات المتوارثة. والتي أساسا تحدد
هوية مجتمعات المواطنة. وأخص هنا ظاهرة “الموت” وتشكل طقوسها الجنائزية، بحكم أن الطقوس
المتعلقة بالموت تؤدي وظيفة أساسية في المجتمع وفي ثقافته وخاصة الثقافة الدينية. باعتبارها نسقا او
نظاما ثقافيا قائم الذات في روح الجماعة ونظرتها للكون. ألن الموت نهاية وجود للكائن، ليلتقي بأعماله
ومواجهة العالم اآلخر تلك الحياة اْالبدية. حيث انوجاد السراط والرب والعقاب…
سأركز هاهنا على طقس حمل الميت لمتواه األخير ] القبر[ وذلك إثر حضوري لِعـدة جنائز، آخـرها
جنازة أخي األوسط، في غضون هـذا الشهر ) الحار( في فضاء شعبي، وتحديدا منطقة ) فاس الجديد(
مدينة ومعقل الدولة المرينية .حيث كان موطن والدتي وشبابي. إذ قبل )مصيبة كوفيد19( كان إخراج
الميت من المنزل، ووضعه على “المحَمـل” يعقبه بكاء ونواح وآهات النسوة واألطفال، حسب درجة
القرابة من الراحل” رحم اهلل الجميع” وفي بعض الحاالت يختلط النواح والبكاء بالزغاريد إن كان
الميت ] أعـزبا أو شهيدا [هنا طبعا في منطقتي، ألن مسألة إخراج الميت والتوجه به إلى أقـرب مسجد
“مخصص” الستقبال الجنازة ، في منطقتنا “جامع البيضاء” مرتبط بالمعتقدات المتعلقة بالموت والعائد
الى التنوع الثقافي بين المناطق والجهات.
إذ بْعـد إخراج الميت من منزله، تضع إحدى السيدات طبقا واسعا فيه طحين ، قرب الباب كرمز إلبقاء
البركة رغم رحيل الميت ) ذكرا/ أنثى( وفي نفس الوقت يضع المعزون أيديهن على الطحين قبل
دخولهن لمنزل الميت، إما إيقافا للعين الشريرة أو إشارة للتسليم والسالم الطيب، هذا لم يبق بعد اجتياح)
كورونا( وبعـد صالة الجنازة] جنازة رجل[ ينقسم الموكب الجنائزي لفريقين) أمام/ خلف( ووسطا
الميت، وُهـم مشاة نحو المقبرة القريبة بأميال عن المنطقة، فكلما مر الموكب، إال وينخرط أحد المارة فيه
تلقائيا ،إما مؤازرة أوألنه من الساكنة أو صديق أحد أصدقاء ” الميت” مما يتوسع الموكب ويتقرب
، لتزداد حارة التفاعل بشكل غرائبي، تفاعل خاشع يفرض لغة اهلل السائدة في
الناس بعضهم بعضًا
المشهد، مما يقف المارة احتراما للجنازة وخشوعا لها واستدراكا أنهم يوما ما سيكونون فوق المحمل )
هذا( مشهد شعبي مثير للغاية ، والذي يزيده غرابة وتأثيرا جنائزيا، فحتى لو كنت ) جالدا/ سفاحا (
ستنهار أمام ارتفاع اسم الجاللة بلسان واحـد. لسان واحد يردد سنفونية ابتهالية بصوت جهوري
وبالتناوب بين جموع المنوجدة في ) األمام/ خلف( والحاملين للمحمل يبقوا صامتين
* سبحان اهلل…. والحمده هلل،
وال حـول وال قوة إال باهلل ،
*
* من أما علم وزنة عليم.
وهكذا في خشوع إلى باب المقبرة، هنا يتغيرالذكروالقول الديني، إلى قول أكثر قوة وجلال، إشارة
لالقتراب من مكان الدفن، مفاده:
*البشير النذير و السراج المنير…سيدنا محمد صلى اهلل عليه *
هاته الالزمة يرددها الجميع، بدون استثناء، وحينما يتم اإلقتراب من القبر خطوات، يتغير اإليقاع
والقـول الديني إلى ما يلي:
* موالنا نسعوا رضاك على بابك واقفين …لمن يرحمنا سواك… يا أرحم الراحمين *
طبعا في لحظة وضع الجثمان في قبره. نالحظ سويا، بأن األغلب يتعاضد ويقدم يد العون من أجل أن
تتوارى الجثة التراب بعناية وفي مأمن من المفاجآت، إشعارا بروحها الطاهرة أنها انتقلت الى خالقها
بسالم ، فيتدخل أكبر مسن في الموكب بدعاء رهيب، يبدأ بصرخة مدوية هكذا:
*نحن في حماك يا محمد…نحن في حماك يا رسول اهلل*
والعجيب في لحظة الدعاء للميت في قبره: تفوح روائح الطيب من العود الخالص يعبق المكان ، بواسطة
آلـة ) الِمْبـخرة( مرفقا بماء الزهر الذي يتطاير على األكتاف والمالبس ، وشخصين توزعان الخبز
وشرائح التين أو التمر على كل الحاضرين
كل هذا الطقس الجنائزي لم يعد له أثر، إذ الموكب الجنائزي من المسجد إلى القبر، أمسى يمر بصمت
مدهش؟ يا إالهي: تغير وتغيير شبه جذري، ومثير للحيرة والتساؤل؟ بصدق صمت لم أعايشه في
جنائز مـا قبل اجتياح لعنة ) كوفيد(.
فما مرد هذا التحول هل حقيقة وباء كورونا هو السبب المباشر لهذا التحول ؟ أو بفعل التغير الثقافي
للمجتمع، أو نتيجة للعوامل االقتصادية واالجتماعية هي التي لعبت الدور األساس في تغيير هذه العادات
والطقوس لدى منطقتنا؟ ناهينا عن المدار الذي يسمى” حضاري” فالسيارات لم تعد تحترم الموكب
الجنائزي، رواد المقاهي وغيرهم، ال يقفون إجالال للميت. أما الصمت يبدأ من باب المقبرة، بعد إنزال
الميت من سيارة اإلسعاف، وال وجود لطبق الطحين في الباب، آلن الميت له شقة في ) عمارة( مشاهد
بين األمس القريب واآلن ) هي( بالتأكيد مفارقة؟ هنا فالموضوع ليس نوستالجيا، ألن الوفاة ليست
نوستالجية. بل هي الوجه اآلخر للحياة.