سوريا الشرع ليست بخير: عن الشرع وعلاقاته مع إسرائيل وأميركا… والأقليّات

سوريا الشرع ليست بخير: عن الشرع وعلاقاته مع إسرائيل وأميركا… والأقليّات
ابراهيم الأمين
من غير المنطقي الافتراض بأن أميركا تعمل في خدمة إسرائيل؛ فالصحيح والمنطقي هو العكس. غير أن ذلك لا ينفي وجود مستوى آخر من التخادم بينهما، خصوصاً في لحظات الارتباك التي تطال كليهما معاً. وفقاً لهذا المنطق، تبدو الإدارة الأميركية، وتحديداً أقسامها المعنية بالشرق الأوسط، في حالة ارتباك ملحوظ.
فالمطّلعون من واشنطن يشيرون إلى تقدّم واضح للفريق المؤيد لإسرائيل، بما يجعل التحديات التي تواجه إدارة الرئيس دونالد ترامب تتجاوز حدود «الدعم الثابت» لإسرائيل، نحو مستوى أعمق يتمثل في انخراط أميركا المباشر في مواجهة خصوم تل أبيب في المنطقة.
والمقصود هنا ليس مجرّد مساندة إسرائيل في حروبها التقليدية، بل تبنّي السياسات الإسرائيلية الراهنة كما هي، سواء في فلسطين أو سوريا أو لبنان، وصولاً إلى إيران، مع نقاشات مفتوحة أيضاً عن الدور المطلوب في العراق. أمّا الملف الأكثر حساسية من وجهة نظر تل أبيب، فيتعلق باليمن، حيث ترى إسرائيل أن من الضروري منحها كامل الهوامش والدعم لتوسيع عملياتها ضد «أنصار الله»، على أن يجري ذلك بالتعاون الوثيق، ليس فقط مع القيادة العسكرية الأميركية في المنطقة، بل أيضاً مع دول الخليج، وفي مقدمتها السعودية والإمارات العربية المتحدة.
سوريا ولبنان
في ما يخص الملفين السوري واللبناني، كانت النقاشات السابقة قد أفضت إلى تحوّل في الموقف الأميركي تجاه القيادة السورية الجديدة، ممثلةً بالرئيس أحمد الشرع وفريقه.
هذا التحوّل تسارع من مرحلة الاعتراف الرسمي بهذه القيادة إلى الانخراط العملي وصولاً إلى توفير الدعم المطلوب لها. وعندما استجاب الرئيس دونالد ترامب لمساعي الوساطة، كان قد أنجز بالفعل صفقة مع نظيره التركي رجب طيب إردوغان، قبل أن يتوجّه إلى السعودية ويعقد اجتماعاً مشتركاً مع الشرع وولي العهد الأمير محمد بن سلمان (حضر إردوغان اللقاء طرفاً رابعاً). هذه الصفقة، وإن بدت مقبولة لدى صقور الجمهوريين في واشنطن، إلا أنها لم تحظَ بالترحيب نفسه لدى أنصار إسرائيل، إذ إن تل أبيب لا تكتفي بمثل هذه التسويات، بل تسعى إلى إعادة صياغة الإستراتيجيات الإقليمية برمّتها في ضوء الحروب المشتعلة مع غزة ولبنان وإيران.
برّاك يقرّ بأن الدولة العميقة في واشنطن تتبنى رأي إسرائيل حول مستقبل سوريا وبأن تل أبيب تريد فرض شروطها والتقسيم فقط
توم براك، الذي أوكلت إليه أساساً مهمة تنظيم العلاقات بين ترامب وإردوغان، وجد نفسه فجأة أمام تجربة استثنائية. إذ اضطر إلى التوسع في دراسة المشهد الأوروبي برمته، قبل أن يُطرح الملف السوري باعتباره امتداداً مباشراً للملف التركي، ثم أُضيف إليه الملف اللبناني، بوصفه تابعاً بدوره للملف السوري التابع أساساً لملف تركيا.
غير أن الإشكالية الحقيقية ظهرت عندما واجه الأميركيون الرؤية الإسرائيلية الرافضة لأي تحالف مع القيادة السورية الجديدة. وقد دفعت تل أبيب نحو مقاربة مختلفة تماماً تقوم على مبدأ «الإخضاع»، معتبرة أن ما حققته في مواجهة حزب الله وحماس شكّل المدخل الأساسي لإسقاط حكم بشار الأسد.
وبحسب الرواية الإسرائيلية، فإنها وحدها اليوم الطرف القادر على التدخل الفاعل في سوريا، بعدما انتفى أي دور لإيران أو حزب الله أو غيرهما. لذلك، وبخلاف ما قد يبدو في الظاهر، اعتمدت إسرائيل إستراتيجية تجاه حكم أحمد الشرع قائمة على نزع أي حق بالاختيار منه، وحصر موقعه في الالتزام التام بإرادة التحالف الأميركي – الإسرائيلي.
في سوريا، سرعان ما أدرك الأميركيون أن الشرع لا يمتلك من القوة ما يتيح له الإمساك بقرار موحّد على امتداد البلاد. وقد ساعد البريطانيون في رسم المشهد الميداني عبر توضيح خريطة توزّع الفصائل المسلحة، فيما قدّم الأتراك قراءاتهم الخاصة لواقع الإدارة العامة داخل سوريا. في الوقت نفسه، كانت أجهزة الاستخبارات الدولية ترسل وفوداً متعاقبة إلى دمشق، معتمدةً مراكز انطلاق في لبنان والأردن وتركيا. غير أن الخلاصات التي خرجت بها تلك الوفود لم تكن مشجّعة.
المشكلة مع الأكراد
منذ اليوم الأول لبدء مهمته في سوريا، سمع براك من الشرع وفريقه مطلبين أساسيين: أولاً، توسيع نطاق سيطرتهم على كامل الأراضي السورية، وثانياً، تأمين الدعم المالي للمؤسسات الرسمية ثم للقطاع الخاص.
غير أن برّاك اعتمد مقاربة مختلفة، واضعاً إستراتيجية ترتكز على اتجاهات عدة أساسها السعي إلى تحقيق نتائج عملية مع الأكراد عبر فتح قنوات مباشرة مع قيادة «قسد».
ففي السابق، حين واجه الشرع وفريقه تحدّي «تمرد الساحل»، لم يمتلك من آليات معالجة سوى ما يتقن القيام به، أي اللجوء إلى ارتكاب مجازر مروّعة، وهو ما كاد يطيح بأي فرصة أمامه للعبور إلى مرحلة سياسية جديدة. عندها، تدخّلت واشنطن وضغطت على قيادة قوات سوريا الديموقراطية لإيفاد وفد رسمي إلى دمشق برئاسة قائدها مظلوم عبدي.
وخلال المفاوضات، لم يظهر الأميركيون في الصورة علناً، لكنهم كانوا حاضرين في الغرفة المجاورة، قبل أن يتولّوا بأنفسهم صياغة اتفاق وُقّع لاحقاً بين الشرع وعبدي.
وبعد عودة الأخير إلى مقره، وجد نفسه أمام نقاش مطوّل حول جدوى الاتفاق الذي وقّعه في دمشق، خصوصاً أن تقديرات الفريق السياسي المحيط به هو أن أي تعهّد يصدر عن الشرع أو فريقه لا يمكن الركون إليه. وهذا ما دفع القيادة الكردية إلى طلب عقد اجتماعات عاجلة مع الأميركيين، ولا سيما مع القيادات العسكرية والأمنية التي تشرف على إدارة العلاقة المباشرة معهم.
الأكراد ربطوا الاندماج العسكري بإقرار حقوقهم الذاتية ويعتبرون أن الاتفاق مع دمشق يتم عبر رجال البنتاغون لا عن طريق غيرهم
مع مرور الوقت، كان الشرع يعتقد بأن الأمور ستسير وفقاً لما خطط له، ولا سيما بعدما سمع دعماً مباشراً من براك نفسه، وهو ما أكده له أيضاً المسؤولون الأتراك. غير أن الخلافات سرعان ما عادت إلى الواجهة، وبلغت ذروتها الأولى عندما طلبت «قسد» من الشرع أن يفرض على الفصائل المسلحة في عفرين ومناطق أخرى في شمال وغرب حلب وإدلب إخلاء منازل الأكراد، وحلّ التجمعات اللامركزية.
فجاء رد الشرع بأن تلك المنازل تقطنها عائلات سورية نازحة من شرق الفرات، وأنه عندما تسلّم قوات «قسد» الدولة مقاليد الأمور في مناطقها، سيُعمل على إعادة الأكراد إلى منازلهم. علماً أن التوترات بقيت على حدّتها بين مختلف الأطراف، حتى داخل مناطق سيطرة «قسد» نفسها، حيث عبّرت العشائر العربية عن رفضها المستمر لما اعتبرته ابتزازاً كردياً.
وزاد الوضع تعقيداً حين أصرت «قسد» على إعداد جدول زمني واضح للخطوات التي يفترض بالشرع إقرارها، لمنح الأكراد «حق الحفاظ على الخصوصية وضمانها في مجالات الإدارة والتعليم والأمن المحلي». وكان عبدي واضحاً بأن هذه الخطوات يجب أن تسبق أي عودة للقوات العسكرية السورية.
غير أن ما طلبه عبدي بدا وكأنه انقلاب على الاتفاق الموقّع مع الشرع، ما فجّر الخلاف بينهما. وفي الاجتماع الأخير في دمشق، رفع الأميركيون صوتهم عالياً في وجه أعضاء الوفد الكردي، الذين غادروا الاجتماع منزعجين، قبل أن يبلغوا براك لاحقاً رفضهم الاستمرار في هذا النوع من المباحثات.
لاحقاً، أبلغ الأكراد براك بأن موقفهم كان منسّقاً أساساً مع وزارة الدفاع الأميركية. وأوضح عبدي، لمن يعنيه الأمر، أن علاقته مع الولايات المتحدة تمرّ عبر البنتاغون مباشرة، وليس حتى عبر القيادة العسكرية الأميركية في المنطقة، وأن فرق وكالة الاستخبارات المركزية العاملة في المنطقة على علم كامل بالتفاصيل. وأضاف بوضوح أكبر بأن مواقفه في اجتماع دمشق كانت منسّقة مسبقاً مع هذه الجهات.
وفيما بعد، شنّ «اللوبي الكردي» في الولايات المتحدة حملة ضد براك الذي أدرك عندها أنه يواجه مأزقاً جدياً. ونُقل عنه قوله في جلسات مغلقة إن إسرائيل هي الداعم الفعلي للأكراد، وليس البنتاغون وحده.
كارثة السويداء
لم يمر وقت طويل حتى برز ملف السويداء إلى العلن، ما أظهر بوضوح حجم التضارب في إدارة الملف من قبل الجانب الأميركي. ومع مرور الأيام، أصبح جلياً للجميع أن الشرع وفريقه بادرا في ملف السويداء بناءً على تقدير سياسي خاطئ، رغم تأكيدهم بأن كل خطوة كانت منسقة مع برّاك بالكامل.
في هذا السياق، نقلت رواية صادرة عن مرجع أمني رفيع في الإدارة السورية ما حدث. وأبلغ هذا المرجع جهات خارجية بأن أحداث السويداء كان نتيجة تراكمات عدة.
وأوضح أن الخلافات في المحافظة بين أبناء الطائفة الدرزية والبدو ليست جديدة، وأن النظام السابق كان يعتمد على القوة لمعالجتها.
أما الإدارة الجديدة، فقد فكرت في احتواء الوضع عبر اتصالات وعلاقات مع الطرفين، لكن الأمور تطورت إلى حد، بحسب فريق الشرع، يهدد الاستقرار في المنطقة الجنوبية برمتها. وفي الوقت نفسه، أبلغ الشرع براك وآخرين أنه لا يحتمل أي نوع من الانفصال الإداري أو الأمني، وأن ما يقوم به الشيخ حكمت الهجري يُعدّ تهديداً للسلطة المركزية في دمشق.
مرجع أمني سوري يقدم روايته لأحداث السويداء: نسّقنا كل خطواتنا مسبقاً مع إسرائيل، لكنهم قصفونا وهدّدونا بالتصفية الجسدية
لكن المسؤول الأمني السوري الرفيع أقر بأنه، مع بدء العمليات العسكرية، بادر مساعدوه أولاً إلى التواصل مع الأميركيين، ثم مع الإسرائيليين، واتُفق على آلية تسمح بدخول وحدات عسكرية تابعة لوزارة الدفاع السورية إلى المنطقة، لقمع الاضطرابات ثم الانسحاب، تاركة إدارة الوضع لمجموعات الأمن العام والشرطة المحلية. وبحسب زعمه، فقد حصلت إدارته على موافقة من الجانبين الأميركي والإسرائيلي، وبناءً على ذلك تم التحرك، بالتعاون مع فصائل محلية من الدروز يقودها وجهاء من آل البلعوص وعبد الباقي.
ويضيف المسؤول أن المفاجأة بدأت بعد وصول قوات دمشق إلى السويداء. فقد ارتكب بعض المسلحين جرائم متعددة، لكن اتصالات سريعة أسفرت عن اتفاق لوقف إطلاق النار، وافق عليه الهجري، وربما كان ذلك تحت ضغط الهجوم السريع لقوات دمشق. غير أن المفاجآت لم تتوقف عند هذا الحد.
يروي المسؤول الأمني السوري، بمزيج من الصدمة والخيبة، أن الجانب الإسرائيلي قرر الانقلاب على الاتفاق بشكل مفاجئ، إذ شنت طائرات الاحتلال ضربات مباشرة على أرتال عسكرية ونقاط تجمّع على دفعتين، ما أسفر عن سقوط نحو 70 قتيلاً وإصابة المئات. وبعد دقائق معدودة، أعلن الهجري انسحابه من الاتفاق، مؤكّداً أنه أُجبر على السير به. عقب ذلك، انطلقت عملية عسكرية مضادة، نجح فيها أنصار الهجري في إبعاد الوحدات العسكرية الرسمية عن أحياء واسعة في المدينة، بينما واصلت إسرائيل استهداف مسلحي الشرع بالقصف، وأرسلت رسائل مباشرة إلى دمشق تطالب بسحب كامل قواتها من المنطقة.
الشرع: صدمة وخيبة
وبحسب زوّار العاصمة السورية، لم يتوقع الشرع وفريقه لحظة واحدة سيناريو القصف الإسرائيلي على دمشق. وعندما تلقّى الموجودون في مقر هيئة الأركان التحذيرات الهاتفية، لم يستوعب الشرع وفريقه الأمر. لكن إسرائيل كررت الاتصال وحددت وقتاً للإخلاء، ما دفع إلى اتخاذ إجراءات عاجلة، شملت أولاً إخلاء العناصر البشرية من مقر هيئة الأركان. ثم أُجري تشاور بين الشرع وقادته العسكريين والأمنيين، وخرجوا بعد ذلك بقرار تنفيذ إجراءات استثنائية، لاعتقادهم بأن إسرائيل كانت تهدف إلى تصفيتهم شخصياً.
ويروي المسؤول الأمني السوري أن قصف مقر هيئة الأركان لم يكن مفاجئاً لعلم دمشق بالتهديدات، إلا أن الصدمة تمثلت في استهداف طائرات إسرائيلية نقاطاً شديدة الحساسية قرب القصر الرئاسي، ما دفع الشرع وفريقه إلى اتخاذ احتياطات أمنية استوجبت اختفاءهم الكامل عن الأنظار لأكثر من 24 ساعة.
وخلال 48 ساعة، بدأ براك يكتشف الحدود الفعلية لنفوذه. وعندما وصل إلى بيروت في تلك الفترة، كانت أحداث السويداء مستمرة. وقد استغل معظم وقته في بيروت لمتابعة الوضع في سوريا، وتنظيم ترتيبات اجتماع باريس بين الإسرائيليين والسوريين برعايته، في حين كان الفرنسيون يتحسّرون على ضعف دورهم إلى درجة أنهم أصبحوا مجرد فندق يستضيف الوسطاء.
من خلال اتصالاته، أدرك براك أن فكرته حول تعزيز سلطة أحمد الشرع لم تكن دقيقة، وأن إسرائيل لا تسعى إلى استقرار سوريا، بل ترغب في فرض سيطرة مباشرة، ما يستلزم كسر السلطة المركزية. وفي هذا الإطار، جاهر براك بمعطياته عن طبيعة العلاقات التي تربط إسرائيل بالقيادات الدرزية في السويداء، وكيف تم بناء برنامج التعاون مع الشيخ حكمت الهجري منذ أكثر من عامين.
غير أن براك شعر بالغضب حين أدرك أن موقف الأكراد في اجتماعات دمشق لم يكن ناجماً فقط عن دعم البنتاغون والمجمع الاستخباراتي الأميركي لهم، بل أيضاً عن تدخل إسرائيلي مباشر، إذ أوضحت تل أبيب للأكراد أن الشرع ليس في موقع يتيح له فرض الشروط عليهم.
كما علم براك أن الإسرائيليين لم يكتفوا بدعم الهجري وأنصاره، بل دعموا هجوم قواته على معارضيه من الدروز، ما اضطر قوات دمشق إلى بذل جهود لإخراج الدروز العاملين مع حلفاء الشرع من جماعات يقودها أمثال البلعوص وعبد الباقي، الذين اشتكوا من تعرضهم للتنكيل وحرق المنازل وحتى نبش القبور من قبل أنصار الهجري. وإلى ذلك، تواصل الإسرائيليون مباشرة هاتفياً مع عدد من الوجهاء «المترددين»، وحذّروهم من التعاون مع فريق الشرع.
بالنسبة إلى براك، بلغت الأمور ذروتها في اجتماعات باريس، عندما حضر الإسرائيليون ومعهم خرائط تحدد مناطق نفوذ الفصائل الدرزية الحليفة لهم، وتوضح الخطوط التي لا يجوز لقوات دمشق تجاوزها. وبفجاجة أكبر، صرّح الإسرائيليون علناً بأنهم لا يثقون بأي طرف، وأنهم سيحتفظون بحقهم في التحرك ضد أي جهة يرونها عدواً لهم، في أي مكان في سوريا.
بعد اجتماعات باريس، شعر فريق الشرع بأن الأمور لا تسير وفقاً للتوقعات التي بنوها بعد لقائهم مع ترامب في السعودية. وحتى إنهم استفسروا من الرياض عن حقيقة الوعود التي قُدّمت لهم، في ضوء أن المخابرات السعودية تقيم علاقات تفاعلية مفتوحة مع المخابرات السورية، لا سيما بعد تولّي حسين السلامة إدارتها. كما إن الشرع على دراية بأن السعوديين لعبوا دوراً رئيسياً في تحريض العشائر العربية وتمويل مشاركتها في «الفزعة» التي شنّت الهجوم على السويداء.
استأنفت السعودية التي لم تكن تعرف كيفية التصرف ممارسة الضغط على الأميركيين عبر براك. لكن أسعد الشيباني، بعد كل لقاء مع رون دريمر في باريس، كان يعود بنتيجة واحدة واضحة: واشنطن تصدّق على ما تريده إسرائيل، فما الذي تريده إسرائيل فعلياً؟
إسرائيل: ترتيبات لا اتفاقات
قد يبدو هذا الكلام غير واضح في هذه المرحلة، لكن الواضح أن إسرائيل لا تستعجل اتفاقاً سياسياً مع الشرع، ولا تسعى إلى توقيع معاهدة سلام معه في الوقت الراهن.
ليس فقط لأنه أشار إلى أنه لن يقدم على خطوة كهذه قبل تنسيقها مع السعودية، بل أيضاً لشعورها بأن ما تحتاجه من سوريا لا يمكن للشرع أن يوفره. فهو يسعى إلى تثبيت حكمه على كامل الأراضي السورية، بينما ترى إسرائيل أن الحل يكمن في تقسيم سوريا، بحيث تحظى هي بحصّة كاملة في الجنوب، وتتقاسم مع الآخرين حصصاً في مناطق الأكراد وفي الساحل أيضاً.
في عقل إسرائيل الأمني والعسكري، تُعد هذه الترتيبات انعكاساً لموازين القوى على الأرض، فهي تعتبر نفسها «صاحبة اليد العليا». وبناءً على ذلك، تقضي شروطها بأن تقبل الحكومة السورية بأن يكون الجنوب السوري، الممتد من الحدود مع فلسطين والأردن حتى منطقة الكسوة، خاضعاً لترتيبات أمنية محددة، تشمل نوع الانتشار الأمني السوري الرسمي، بحيث لا يُسمح بوجود وحدات عسكرية تُصنّف في خانة الجيوش، ولا يكون في حوزة الشرطة أسلحة ذات طابع هجومي، كما يُمنع الطيران العسكري السوري (إن وُجد) من التحرك في أجواء المنطقة. في المقابل، تُمنح إسرائيل حرية حركة كاملة لطائراتها، ليس فوق الجنوب فقط، بل في أي منطقة تراها ضرورية وفقاً لتقييمها الأمني.
علاوة على ذلك، تعتبر إسرائيل أنها معنية بتدعيم فكرة الحكم الذاتي لدروز السويداء وبعض مناطق القنيطرة. وقد بدأت العمل على برنامج يربط سكان هذه المناطق بالمساعدات التي تقدمها، إضافة إلى تعزيز حضور رجال الدين الموالين للمرجعية الدرزية الإسرائيلية، المتمثلة بالشيخ موفق طريف.
ويتطلب هذا البرنامج عناصر عدة، من بينها ما يُعرف بالممر الإنساني الذي يجري الحديث عنه، وهو في الواقع ليس سوى ممر أمني وعسكري يربط الجولان بالسويداء. وفي الوقت نفسه، بدأت قوات الاحتلال أعمالاً في الجنوب السوري تهدف إلى إبعاد السكان السنّة من المنطقة، معتمدة في ذلك على الأردن للقيام بخطوات أمنية متزامنة ومواكبة لما يقوم به الإسرائيليون في درعا.
صحيح أن دمشق استجابت لطلب الولايات المتحدة وإسرائيل بإشهار العلاقات القائمة حالياً. فبادر الشيباني إلى نشر خبر اجتماعه الأخير مع دريمر في الإعلام السوري الرسمي والخاص، مراهناً على أنه لن يواجه اعتراضات جدية. لكن ما لم يدركه الرجل ومن خلفه، أن من يقيم علاقات على هذا المستوى مع إسرائيل، وهو لا يمثل دولة مكتملة الأركان، يكون قد أقر مسبقاً بأي تواصل تقوم به جهات أو مجموعات سورية مع تل أبيب. وهو ما يحدث حالياً مع الأسف.
وإلى ذلك، ثمة بند رئيسي، لن يُعلن عنه الشرع ولا إسرائيل ولا الأميركيون، يقضي بأن يتعهد الشرع وفريقه القيام بـ«كل ما يلزم» لإجهاض أي محاولات لقيام مجموعات تقاتل قوات الاحتلال في الجنوب السوري.
وتحمّل إسرائيل الشرع المسؤولية الكاملة عن أي نشاط من هذا النوع، ولهذا طلبت منه في البداية نشر خلاياه الأمنية في كامل المنطقة، واعتقال أي فرد يشكل تهديداً، ثم العمل على إعادة ترتيب وضع اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، بحيث يُمنع على أي عنصر من حركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» ممارسة أي نشاط سياسي أو إعلامي أو عسكري من دمشق.
عملياً، يجب الاستنتاج بشكل موضوعي، بعيداً من أي اجتهادات اعتباطية أو رغبوية، أن إدارة الشرع ليست على ما يرام. فقد صرفت في ستة أشهر قسماً كبيراً من رصيدها بين أنصارها، بينما ذهب خصومها إلى تعزيز جذرية سياسية تنطوي على مخاطر كبيرة على مستقبل سوريا، خصوصاً أن حرب الأقليات تتخذ أبعاداً طائفية وعرقية، ما يفتح الباب أمام استمرار الاحتلالين الأميركي والإسرائيلي، وإتاحة المجال أمام كل مارق في هذه الدنيا!
■ سوريا- ليكس
مصر «لا نتعامل مع «مدانين بالقتل»
اطلعت «الأخبار» على وثائق ديبلوماسية صادرة عن بعثات عربية وأجنبية في دمشق وعواصم أخرى، تتضمن معطيات وتقديرات حول الوضع في سوريا وكيفية تعامل الإدارة الحالية معه.
ويفيد أحد التقارير أن وزير الخارجية المصري، بدر عبد العاطي، تحدث في لقاء وزاري عُقد على هامش مؤتمر باريس حول سوريا، عن استحالة التعامل مع بعض أعضاء السلطة الحالية في دمشق، لوجود أحكام قضائية في مصر بحقهم بسبب تورطهم في عمليات إرهابية، بما في ذلك اغتيال النائب العام في مصر.
وقال وزير الخارجية العراقي، فؤاد حسين، إن أحمد الشرع كان إرهابياً قاتل في العراق، وإن الأميركيين يعرفونه جيداً، وإن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية تتواصل مباشرة مع «هيئة تحرير الشام». وأبدى حسين مخاوف العراق من انضمام عناصر إرهابية في سوريا إلى أكثر من 1000 عنصر من «داعش» موجودين في وادي حوران في محافظة الأنبار، مشيراً إلى أن انسحاب قوات «قسد» من الحدود مع العراق، جعل مساحات واسعة خارج نطاق المراقبة. وأعرب عن القلق من احتمال حدوث انشقاقات وتصفيات بين عناصر الحكم الجديد، مؤكداً أن الصراع بين «داعش» والسلطة الجديدة في دمشق واقع لا محالة.
وعلى هامش لقاء ديبلوماسي في موسكو، أشار وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إلى أن المصالحة في سوريا لا يمكن أن تتحقق إلا بمشاركة جميع الدول الأعضاء الدائمة العضوية في مجلس الأمن، إضافة إلى إيران، معتبراً أن محاولات استبعاد روسيا والصين وإيران من مساعي الحل تكشف عن خطط غربية لإقصاء المنافسين.
غضب شعبي في الجنوب
نقلت بعثة ديبلوماسية مضمون تقرير داخلي رفعته جهة سورية إلى أحمد الشرع، يتناول وضع الجنوب السوري. ويشر إلى أن «حالة من الاحتقان الشعبي بسبب العدوان الإسرائيلي، والذي أدى إلى استشهاد عدد من المواطنين وتدمير بعض المنازل والمرافق». كما لاحظ التقرير «تنامي المطالبات الشعبية بالرد على اعتداءات قوات الاحتلال».
واقترح معدّو التقرير «احتواء هذا التوتر من خلال إبراز أن ما تقوم به إسرائيل هو محاولة لتعطيل الجهود الرامية إلى استعادة الأمن والحياة الطبيعية في البلاد»، وأن «المطلوب من السوريين عدم تقديم ذرائع لاستمرار هذه الاعتداءات». كما أوصوا بضرورة أن يكون واضحاً لدى الأهالي أن «القوات التابعة لوزارة الدفاع السورية وحدها تملك صلاحية الرد على العدوان الإسرائيلي».
وفي السياق نفسه، أفادت وثيقة ديبلوماسية صادرة عن الأمم المتحدة أن المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في سوريا، غير بيدرسون، قال أن «إسرائيل تلعب بالنار». مشيراً إلى أن التصريحات الإسرائيلية الأخيرة «غير مطمئنة».
بيدرسون: تهميش متعمّد للعلويين
بعد تصاعد القلق من الوضع في سوريا عقب المجازر التي ارتكبت في مناطق الساحل، لفت غير بيدرسون، المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، في تعليقه أمام أعضاء مجلس الأمن خلال جلسة مغلقة، إلى أن سلطات دمشق «تتحدث عن ضلوع مقاتلين أجانب ومتطوعين في الأحداث التي جرت في هذه المنطقة»، لكنه نقل عن جهات لم يسمّها، «أن بين المتورطين جماعات إجرامية يقع بعضها تحت سلطة وزارة الدفاع السورية».
وأشار بيدرسون إلى أن الرد على «هجمات من فلول النظام السابق على بعض المواقع» شمل عمليات تصفية «لعائلات علوية بكاملها ولأسرى سلموا أسلحتهم سابقاً، وهذا أمر غير مقبول». وأضاف أنّ هناك شعوراً لدى الطائفة العلوية بأنها مهمشة عمداً وغير مشمولة بالعملية الانتقالية، مع إحساس بأنهم وحدهم من تم نزع السلاح منهم، بالإضافة إلى ما ترتب عن تسريح الموظفين والعسكريين، ما أسهم في تأزّم الوضع.
كما لاحظ بيدرسون تنامي الخطاب الطائفي الذي يحض على الكراهية، ويظهر في بعض الخطب في المساجد، رغم اللهجة الإيجابية للحكومة. وحذّر من أن الوضع بالغ الخطورة، وأن الثقة مفقودة تماماً بين مكونات الشعب السوري، ما قد تكون له آثار مدمرة على العملية الانتقالية. وخلص المبعوث الدولي إلى أن البعض «يرى أن سوريا تعيش مرحلة ما بعد النزاع، لكن الحقيقة أن النزاع لم ينته بسقوط النظام في 8 كانون الأول 2024». كما نفى توافر معلومات من مصادر مستقلة تؤكد تورط أطراف إقليمية مثل لبنان أو حزب الله أو إيران في أحداث الساحل السوري.