«الجيش» يقاوم ضغط الحكومة: مماطلة معلَنة في اجتياح غزة

«الجيش» يقاوم ضغط الحكومة: مماطلة معلَنة في اجتياح غزة
يماطل الجيش الإسرائيلي في تنفيذ قرار احتلال غزة، وسط تسريبات عن الثمن الباهظ وانخفاض المعنويات، في صراع مفتوح مع القيادة السياسية.

يواكب قرارَ إسرائيل احتلال مدينة غزة، عملُ المؤسسة العسكرية من خلف الكواليس على عرقلة تنفيذه، وذلك عبر تسريبات حول «الثمن الباهظ» الذي سيُدفع من جرائه، و»عدم الجاهزية» له، و»الحاجة إلى منطقة إنسانية آمنة» بفعله، فضلاً عن «الخوف على حياة الرهائن» في خضمّه.
وتلك التحذيرات، المسرّبة عن قصد، ليست مجرّد تقييمات تقنية، بل أداة ضغط غير مباشرة لمنع عملية عسكرية واسعة يرفضها الجيش.
مع ذلك، ليست ثمّة إجابات قاطعة حول احتمالية عدم تنفيذ القرار. صحيح أن الجيش طالب المؤسسة السياسية (وما زال)، بضرورة مواصلة «الحصار والعمليات الموضعية»، مع التركيز على تفكيك البنية العسكرية لـ»حماس» تدريجيّاً، بدلاً من اللجوء إلى عمليات هجومية كبيرة واحتلال مناطق والتمركز فيها.
إلا أن القيادة السياسية، وتحديداً رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وشركاءه في الائتلاف، لا يزالون يصرّون على خطّة احتلال مدينة غزة، والتي عبّر عنها وزير الأمن، يسرائيل كاتس، بوضوح، بقوله أخيراً: «ستتحوّل غزة، عاصمة حماس، إلى رفح وبيت حانون»، أي إنها ستُدمّر بشكل شامل. على أن أي شيء لم يحدث إلى الآن؛ إذ يواصل الجيش تسريب معلومات موجّهة تبرز «الصعوبات» التي يواجهها لتنفيذ قرار الحكومة. ووفقاً لآخر التقارير المسرّبة، نقلاً عن مصدر عسكري رفيع تحدّث إلى صحيفة «هآرتس»، فإن التقدير السائد لدى الجيش، هو أن العملية العسكرية في غزة قد تستغرق أكثر من سنة، على أن يسبقها فتح «مناطق إنسانية» لاستقبال النازحين، كشرط مسبق لبدء الهجوم بلا تداعيات دولية.
والأهم ممّا تقدَّم، الحديث المفرط عن أن مختلف الوحدات المقاتِلة، تعاني «انخفاضاً في المعنويات»، وأن «عدد جنود الاحتياط الذين يلبّون أوامر الالتحاق بوحداتهم» لا يفتأ يتراجع، فيما الأسرى معرّضون لخطر الموت نتيجة الهجوم الشامل على غزة.
من يمتلك «مفتاح إنهاء الحرب»، قد يكون المؤسسة العسكرية نفسها المُطالَبة بالاستمرار فيها
والواقع أن ما يحدث اليوم، هو حلقة من مسلسل الصراع بين المؤسسة العسكرية وتلك السياسية، والذي لم يعُد خافياً؛ إذ إن الأخيرة لا تفتأ تبحث عن «نصر شامل» لغايات غير محصورة في عامل واحد (أمن الكيان واستدامته)، بل يتداخل فيها الشخصي بالعام، ومصلحة «الدولة» بالمصلحة الشخصية، فيما ترى فيه جهات مؤثّرة في صنع القرار، فرصةً لتحقيق أهداف أيديولوجية غيبية، كما هو حال أحزاب «الصهيونية الدينية».
أمّا المؤسسة العسكرية، فتتطلع من منظار «مهني» إلى ما لا تراه القيادة السياسية، وهي تعتقد أن الانتصار ليس في تدمير المباني – على أهميته في تحقيق ردع مستدام -، بل في بلوغ أهداف استراتيجية واضحة: تفكيك «حماس»، وضمان أمن طويل الأمد لإسرائيل «الدولة»، ربطاً بالإمكانات الموجودة على أرض الواقع.
من هنا، يواصل الجيش المماطلة في تنفيذ قرار لا يؤمن به، فضلاً عن أنه غير قادر على تنفيذه أصلاً، ويخشى تداعياته عليه. وفي هذا الإطار، تفيد التسريبات – التي لا تختلق الأعذار بقدر ما تعبّر عن حقيقة الوضع- بأن كبار المسؤولين العسكريين يخشون تهديداً داخليّاً، من شأنه أن يؤدّي إلى انهيار نسبي يمنع الجيش من تنفيذ مهامّه. وممّا سرّبته «هآرتس»، أمس، أن الوحدات المقاتلة تشهد «انخفاضاً حادّاً في التحاق الجنود»، بحجّة أن المهام «غير ذات معنى»، وأنها «تعرّض حياتهم للخطر من دون هدف واضح».
كما تفيد التسريبات بتزايد حالات امتناع الطيارين عن «التحليق»، وفقدان القادة ثقتهم في قدرتهم على القيادة. هكذا، يتضح أن الجيش لا يريد تدمير غزة «من فوق الأرض ومن تحتها» وفقاً لما توعّد به كاتس، لأسباب «أخلاقية»، بل لأنه يرى في ذلك خطراً عليه.
وإذا كانت المعطيات والأرقام تبيّن أن أكثر من 40% من ضباط الجيش عقائديون يتبعون أحزاباً وتيارات صهيونية دينية، إلّا أن الأغلبية، أي 60%، هم من العلمانيين والتقليديين، غير المرتبطين بأيديولوجيات دينية. ويعني ذلك أن الانضباط العسكري لن يكون تلقائيّاً، وأنه لن يكون هناك انقياد أعمى لأوامر سياسية متطرّفة، على الرغم من أن الجيش لا يزال، إلى الآن، يرضخ لقرارات المؤسسة السياسية.
هل يعني ما تقدّم أن الجيش، المُطالَب بالاستمرار في الحرب، هو مَن يمتلك «مفتاح إنهائها»؟ لا يزال من السابق لأوانه الادّعاء بأن التماسك الداخلي للجيش، سيؤدّي إلى تغيير جوهري في الموقف السياسي تجاه الحرب.
إلّا أن ما يجري حالياً، وإنْ كان لا يزال «ضرباً تحت الحزام»، يؤكد أن موقف المؤسسة العسكرية يمثّل معطى غير هامشي. وإذا كان الجيش، إلى الآن، قادراً على عرقلة تنفيذ قرار سياسي حاسم، كاحتلال واسع لمدينة غزة، عبر التشديد على «الشروط اللوجستية والقانونية والإنسانية»، فإن ذلك يُظهر أن المؤسسة ما زالت تمتلك درجة من القوّة والتأثير – وإن غير المباشر – في صنع القرار، وحتى في إمكانات تنفيذه فعلياً.