توم برّاك… Yankee, go home

توم برّاك… Yankee, go home

«في اللحظة التي يصبح فيها الوضع فوضوياً أو شبيهاً بالسلوك الحيواني، سنُنهي كلّ شيء». هكذا توجّه المبعوث الأميركي توماس برّاك أمس إلى الصحافيين اللبنانيين في القصر الجمهوري.
بوقاحة الكاوبوي المتعجرف، استدعى برّاك مفردات وقاموساً قديماً عن «مهمّة» المستعمِر «السامية» لإخراج شعوب المنطقة من «حيونتها وهمجيتها» وإدخالها رحاب الحضارة الغربية أو الحظيرة الاستعمارية. هذه العنصرية والتعجرف والفوقية طاولت وسائل الإعلام اللبنانية رغم أنّها تتولّى منذ فترة ـ كالتلميذ النجيب ـ مهمة تسويق السياسة الأميركية العدوانية والفوقية تجاه شعوب المنطقة.
كما امتدت شظاياها إلى عموم الشعوب العربية، التي اعتبر الموفد الأميركي، توم برّاك، أنّها تتصرف بطريقة فوضوية «حيوانية» شبيهة بتصرفات الصحافيين المجتمعين في المؤتمر الصحافي أمس!
حاول قصر بعبدا لملمة سقطات المبعوث الأميركي عبر امتناع المترجمة عن نقل العبارات الفجّة، بالإضافة إلى نشر صورة الرئيس «سعيداً» وهو يتوسط أعضاء الوفد الأميركي.
لكنّ التدحرج السريع لردّات الفعل الواسعة التي أحدثها موقف موفد إدارة ترامب أحرج الرئاسة، ما اضطرّها إلى مجاراة الغضب الإعلامي والشعبي الجارف عبر إصدار بيان «أسفت» فيه رئاسة الجمهورية على الكلام الذي صدر «عفواً» عن منبرها من قبل «أحد ضيوفها» من دون أن تسمّيه. إلى جانب ذلك، صدر تصريح مشابه عن وزير الإعلام بول مرقص الموجود خارج البلاد، أسف فيه للتصريح الصادر عن «أحد الموفدين الأجانب».
غير أن بيان القصر الجمهوري لم يرتقِ إلى مستوى التحرّك الكبير الذي تبع المؤتمر الصحافي، إذ شهدت وسائل التواصل الاجتماعي مواقف وبيانات متتالية من إعلاميين وسياسيين وناشطين ضجّوا من الموقف المتعالي والتحقيري تجاه الإعلام المحلي، الذي نزف عبر امتداد الأعوام مراراً بسبب الصواريخ الأميركية الصنع.
كما أصدرت نقابة محرّري الصحافة اللبنانية بياناً استنكرت فيه بشدّة ما وصفته بـ«المعاملة غير اللائقة» التي تعرّض لها الإعلام اللبناني، معتبرة أنّ ما صدر عن الموفد الأميركي «خارج عن أصول اللياقة والدبلوماسية».
وطالبت برّاك ووزارة الخارجية الأميركية بإصدار بيان اعتذار علني إلى الجسم الإعلامي اللبناني، محذّرة من أنّ تجاهل هذا المطلب قد يدفعها إلى اتخاذ خطوات تصعيدية، بدءاً بالدعوة إلى مقاطعة زيارات الموفد الأميركي واجتماعاته.
واعتبر مجلس نقابة العاملين في الإعلام المرئي والمسموع أن استخدام القصر الجمهوري كمنصة لهذه الإهانات يشكّل إساءةً إلى الرمز الذي يمثّل السيادة اللبنانية، ويضرّ بكرامة الإعلاميين والشعب اللبناني على حدّ سواء. وطالب باعتذار علني وفوري من المسؤول المعني حفاظاً على الاحترام المتبادل وعلى كرامة الإعلام الوطني، وعلى ثقة المواطنين بمؤسسات الدولة.
«ريبراندينغ» أورتاغوس
لا تنحصر المواقف التي تدلّ على التعجرف الأميركي تجاه لبنان على مبعوث أميركي دون غيره. رغم الصدمة الكبيرة التي أحدثها برّاك، فإنّ المبعوثة الأميركية السابقة، مورغان أورتاغوس، كانت ولا تزال لها صولات وجولات في احتقار اللبنانيين.
بينما حاولت أورتاغوس «تلميع» صورتها في لبنان خلال وجودها كعضو في الوفد الأميركي الحالي، عبر انتشار فيديو على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي سارعت القنوات المحلية المنبطحة إلى ترويجه، يُظهرها وهي تُسرّح شعرها عند أحد مصفّفي الشعر المحليين، فإنّ تاريخها القصير في المفاوضات مع المسؤولين اللبنانيين تخللته مظاهر مشابهة لتصريحات برّاك، إذ تسبّبت المبعوثة الأميركية في إحراج للرئيس اللبناني جوزيف عون بسبب ارتدائها بطريقة مستفزّة رموزاً تدعم الصهيونية خلال إحدى زياراتها للقصر الرئاسي.
كما امتدت مشاغبات أورتاغوس لتصل إلى الزعيم اللبناني وليد جنبلاط، الذي علّقت على مقابلته على إحدى القنوات الخليجية المعادية للمقاومة بالقول: «المخدّرات مضرّة وليد». وهو ما استدعى وقتها جواباً من زعيم المختارة من خارج الصندوق وصفها فيه بـ«الأميركية البشعة».
افتقد المؤتمر الصحافي لممثّل شجاع عن شعوب المنطقة كمنتظر الزيدي
ورغم عمليات التجميل الإعلامية التي واكبت زيارتها الحالية إلى لبنان، إلا أنّ طبع أورتاغوس يغلب تطبّعها، إذ خرجت الموفدة السياسية عن جميع الأصول الدبلوماسية، معلنة أنّ «نعيم قاسم لا يمثّل الشعب اللبناني، إنما يمثل إيران». وأضافت أنّ بلادها تريد دعم إرادة الشعب اللبناني وتطلعاته، علماً أنّ «حزب الله » يُعدّ الحزب الأوسع تمثيلاً شعبياً في لبنان بحسب أرقام الانتخابات النيابية.
تصرّفات أروتاغوس تتماهى مع أسلوب برّاك، حيث يكشف المبعوثون بما يُضمِرونه فعلاً، فما يهمّ أميركا ليس شعوب المنطقة «الحيوانية»، بل تثبيت أنظمة تتحكّم بإرادة الشعوب لتحقيق أولويات واشنطن العليا، ومن ضمنها أمن «إسرائيل الكبرى»، كما أعلنها أخيراً بشكل واضح لا لبث فيه، رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو.
ليندسي غراهام… موفد برتبة عدوّ
يُعد وجود السيناتور ليندسي غراهام، المعروف بدفاعه الشرس عن إسرائيل، ضمن الوفد الأميركي إلى بيروت، رسالة عدوانية بحد ذاتها. فقد أعاد التأكيد على خطاب متعجرف، محمّلاً اللبنانيين مسؤولية مستقبلهم الأمني والاقتصادي عبر نزع سلاح حزب الله قبل أي خطوة من قبل إسرائيل.
كما تجانست تصريحات غراهام مع تلك التي أعلنتها أورتاغوس، إذ أصدر حكمه السامي بأنّ الحزب ليس وفياً للشعب اللبناني ويعمل لأجندة خارجية، معلناً باسم اللبنانيين أنّ مطلب نزع السلاح هو مطلبهم. اللافت أنّ السيناتور الأميركي «المهتم بمصلحة اللبنانيين»، هو ذاته الذي تفاخر قبل فترة وجيزة بالدفاع عن إسرائيل أمام تغيّر المزاج الشعبي الغربي، قائلاً: «إذا قطعت أميركا علاقتها بإسرائيل، فإن الله سيقطع علاقته بنا».
وإلى ذلك، لفت غراهام من قصر بعبدا إلى أنّ بلاده لن تدعم الجيش والاقتصاد اللبناني إلا في حال النجاح في نزع السلاح، كما أشار إلى أنّ الحديث عن انسحاب إسرائيلي من النقاط الخمس لن يبدأ قبل هذه الخطوة. وبينما يبيع السيناتور الأميركي وعوداً مستقبلية بلا ضمانات، كانت قوات الاحتلال توسّع النقاط الخمس إلى ثمانٍ على أطراف قرى جنوبية حدودية.
ورغم التجاوب الكامل للعهد الجديد مع المطالب الأميركية منذ اليوم الأول، وصولاً إلى اتخاذ الحكومة اللبنانية القرارات الشهيرة في 5 آب (أغسطس) المنصرم بالمباشرة بإعداد خطة لنزع السلاح، فإنّ الأميركي لم يرد بأي خطوة إيجابية، ولا حتى بتقديم ضمانات فعلية على انسحاب القوات الإسرائيلية.
على العكس تماماً، حضر الوفد الجديد بسقف أعلى من أي وقت مضى، إذ مثّل غراهام أفضل تمثيل الورقة الأميركية التي تولي اهتمامها لمصالح إسرائيل حصراً. بينما استعرض برّاك وأورتاغوس منظورهما المتعجرف على الصحافة وشعوب المنطقة برمّتها.
وهو ليس بالأمر المفاجئ إذا ما وُضع في سياق الأحداث في غزة، حيث تقتل القوات الإسرائيلية بالأسلحة الأميركية الأطفال والمدنيين، ولا تولي أي اهتمام للصحافة التي استُهدفت أطقمها في حادثين هذا الشهر: المرة الأولى عبر بيان رسمي من دون أي حرج عند قتل أنس الشريف وزملائه، والمرة الثانية الإثنين الماضي عند استهداف الصحافيين ومعهم فرق الإنقاذ أمام أعين الكاميرات وعلى الهواء مباشرة.
حضور غراهام إلى جانب برّاك وأورتاغوس رسم صورة كاملة للسياسة الأميركية في لبنان اليوم: مزيج من التدخل السياسي الواضح، السلوك الاستكباري، والرسائل الصريحة لدعم إسرائيل، مع غياب أي محاولات للتخفيف من حدة التوتر أو احترام الدور الإعلامي المحلي.
ما يجعل الوجوه الأميركية الثلاثة تجسيداً جلياً لصورة الولايات المتحدة الحقيقية التي عملت إداراتها المتعاقبة على تسويقها بمسمّيات مختلفة، بين ديمقراطية وحقوق الإنسان والمرأة والطفل وحماية الصحافة. إلا أنّ الإمبراطورية الأميركية كشّرت عن أنيابها الاستعمارية في لحظة دولية حرجة تختلف عن الأحادية القطبية التي تمتّعت بها منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في أواخر الثمانينيات.
فكلّما دخل العالم أكثر في مخاض النظام العالمي الجديد، سقطت «الأقنعة الجميلة» التي اختبأت خلفها واشنطن لتحقيق مصالحها. وأمام هذا الواقع الجديد، افتقد المؤتمر الصحافي لممثّل شجاع عن شعوب المنطقة كمنتظر الزيدي، ليُعطي المندوب السامي الجديد ما تستحق بلاده جراء ما ارتكبته منذ عشرات السنين ولا تزال.
الاخبار اللبنانية