
خمسة عشر يوماً قد تغيّر وجه التاريخ

مريم مشتاوي
في المرافئ التي كانت دوماً بوابات للتجارة والبضائع والانتظار، ارتفعت فجأة أصوات أخرى، أصوات لم تأت من صفارات السفن ولا من صرير الحاويات المعدنية، إنما من حناجر العمال. في جنوة، المدينة التي حملت عبر التاريخ أساطير البحّارة وذاكرة البحر الأبيض المتوسط، اجتمع عشرات الآلاف في شوارعها وساحاتها، يهتفون ويهزون الأعلام الفلسطينية، كأنهم يكتبون على صفحة البحر عهداً جديداً… غزة لن تبقى وحدها!
كان المشهد يتجاوز كونه مظاهرة. أربعون ألف جسد يتحركون بخطى واحدة، يرفعون أيديهم كأنهم أمواج بشرية، توازي الأمواج التي تضرب أرصفة الميناء. الوجوه مختلفة، أعمار وألوان ولهجات شتى، لكن اللغة التي سادت كانت لغة التضامن. بدا أن المدينة كلها تحولت إلى جوقة واحدة، تهتف ضد الإبادة، ضد الحصار، ضد جدران العزلة التي تحاول إسرائيل أن ترفعها في وجه العالم.
في قلب الميناء، وقف رجل مسنّ، عامل شاب شعره من ملح البحر، يمسك بمكبر صوت كأنه سلاحه الأخير. ارتج صوته في الأفق: “لن يخرج من هنا مسمار واحد إلى إسرائيل. لن تتحرك سفينة سلاح واحدة تقتل أطفال غزة. إذا اعترضوا أسطول الصمود، سنوقف كل شيء: الطرق، المدارس، المصانع، الموانئ. لن يمرّ شيء.” كان كلامه تهديداً، لكنّه بدا أيضاً صلاة. كانت عباراته مزيجاً من الغضب المقدس والوعد الأبدي.
صفق الناس، وتعانقت أصواتهم مع هدير البحر. في تلك اللحظة، أدرك الجميع أن الميناء بات ساحة نضال، وأن البحر الذي طالما استخدم معبراً للتجارة صار هو الآخر معبراً للأمل.
السفن التي تجهزت للرحيل لم تكن مجرد أخشاب وحديد، كانت تحولات رمزية. أكثر من عشرين سفينة خرجت من جنوة وبرشلونة، تحمل على متنها ثلاثمئة ناشط من أربعٍ وأربعين دولة. وجوه يجمعها حلم مشترك… حلم أن الحصار ليس قدراً أبدياً، وأن البحر الذي شهد حروباً وغزوات يمكن أن يشهد أيضاً فعل رحمة وإنسانية.
على ظهر إحدى السفن، فتاة تلوح بعلم فلسطين، بينما شاب يعزف على عود قديم نغمة تتطاير مع الريح.… السفن تبحر، الناس يودعون، والأمل يركب الموج. في العيون دموع، وفي الأيادي ارتجاف، وفي القلوب يقين غريب بأن الطريق، مهما طال، سيصل.
فالبحر كائن حي، شاهد على محاولات الإنسان الدائمة لكسر حدوده. البحر يعرف أسرار المهاجرين الذين غرقوا في مياهه، ويعرف أيضاً أسرار السفن التي قاومت لتصل. في تلك اللحظة، بدا البحر شريكاً، كأنه يفتح صدره ليحمل هذه السفن ويأخذها إلى غزة.
وفي الجهة الأخرى من المشهد، في غزة المحاصرة، هناك من كان يترقب. الأمهات اللواتي طال انتظارهن لعلبة حليب أو دواء. الأطفال الذين حلموا أن تصلهم لعبة أو كتاب. الجرحى الذين يئنون من عمق أوجاعهم. كانوا يرون الصور على الشاشات، يسمعون أن العالم لم ينسهم تماماً، وأن هناك من يخوض البحر لأجلهم. لحظة أمل كهذه، حتى لو لم تصل السفن، تكفي لتكسر جدار اليأس للحظة.
العمال في الميناء كانوا يعرفون أن قوت يومهم، عرقهم، سواعدهم، قد تتحول إلى سلاح سياسي أقوى من بيانات الحكومات. حين يعلن عامل بسيط أنه سيغلق الحاويات ويوقف الشحنات إن اعترضت إسرائيل الأسطول، فهو يعيد تعريف السياسة. لم تعد السياسة حكراً على القصور والبرلمانات، إنما صارت في يد هؤلاء الذين يرتدون بزاتهم الزرقاء ويشمّرون عن أذرعهم.
وهنا يتجلى المعنى الأعمق للتضامن فهو ليس رفاهية، إنما هو ضرورة وجودية. أن إنساناً في جنوة يمكن أن يشعر بأن مصيره مرتبط بطفل في غزة. أن العامل الذي يرفع صندوقاً في المرفأ ليس بعيداً عن الأم التي ترفع طفلها المريض تحت القصف.
خمسة عشر يوماً، هذا ما قد تستغرقه السفن للوصول إلى غزة. خمسة عشر يوماً بين الرجاء والقلق. بين احتمال أن يفتح البحر صدره وبين احتمال أن يواجه الأسطول جداراً من البوارج الحربية. لكن الزمن في مثل هذه اللحظات ليس مجرد أيام. الزمن يتحول إلى امتحان. خمسة عشر يوماً قد تغيّر وجه التاريخ أو تتركه كما هو.
ولأن التاريخ في النهاية يكتب بأيدي من يجرؤون، بدا أن هذا الأسطول الصغير، مهما كان حجمه، قد دخل بالفعل ذاكرة الأرض. ليس لأنه قد ينجح في إيصال كل شيء إلى غزة، إنما لأنه أعلن أن هناك من لا يزال يرى غزة، يسمعها، ويحبها.
كل ذلك يضعنا أمام سؤال فلسفي أبدي: ما معنى الحرية؟ هل الحرية هي فقط أن تتحرك السفن في البحر بلا خوف؟ أم أن الحرية أعمق: أن يشعر الإنسان في أي مكان على وجه الأرض أن وجعه مرتبط بوجع آخر بعيد عنه آلاف الكيلومترات؟ الحرية هنا ليست شعاراً سياسياً، الحرية هنا فعل حبّ عالمي، أن ترى نفسك في عيون الآخر.
هكذا، حين ودّع الناس السفن، كانوا يودعون أنفسهم. كل واحد منهم أرسل جزءاً من قلبه على متنها. ربما لأن غزة لم تعد مكاناً جغرافياً فقط، إنما صارت مرآة. من ينظر إليها يرى نفسه. يرى ضعفه وقوته، يرى خوفه وأمله، يرى ما تبقى من إنسانيته.
وعند الغروب، حين بدأت الأضواء تخفت في جنوة، ظلّت الأعلام ترفرف. البحر ظل يغني بأمواجه، والسفن مضت في طريقها، تحمل معها أكثر من مساعدات… تحمل المعنى. معنى أن الإنسان، مهما حاصرته الجدران، لا يتوقف عن اختراع طرق جديدة ليصل.
لن أغادر.. أريد روبوتاً يقتلني
في الأزقة التي فرغت من أهلها تحت تهديد الجنود، ظل رجل واحد يتجول. رجل كفيف، يضع عصاه في الأرض كأنها جذر يبحث عن ماء، ويرفع صوته كمن يستدعي السماء لتشهد: “لن أغادر.. أريد روبوتاً يقتلني.”
كان صوته أشبه بجرس معدني يخترق الصمت الثقيل. لم يعد في البلدة إلا جدران متعبة، أبواب مغلقة، نوافذ مطرقة بالسواد، وأشباح من ذكريات من مرّوا هنا ذات يوم. أما هو، الكفيف، فكان يمشي بخطى لا تبحث عن طريق بقدر ما تبحث عن كرامة.
الرؤية لم تكن في عينيه، كانت في صدره. كان يرى ما لا يراه المبصرون.. كان يرى أرضاً تنتزع، وبيوتاً تمحى، ويرى كيف يمكن أن يحوّل الإنسان إلى رقم في بيان عسكري. لذلك كان يصرخ. كان صراخه وعياً كاملاً بأن الموت بشرف أهون من حياة تدار بأزرار الاحتلال.
حين صاح “أريد روبوتاً يقتلني” كان يسخر من آلة الحرب نفسها. كأنه يقول لهم: أنتم لا تملكون حتى شجاعة مواجهة جسد أعزل، إنما تختبئون وراء آلات وبرامج. أراد أن يفضحهم… أن يجبرهم على أن يعترفوا بأنهم آلات بلا ضمير.
في خطواته المرتبكة كان معنى عميق. كل عصا تضرب على الأرض كانت تشبه توقيعاً جديداً على وثيقة الصمود. كان يمشي كمن يرسم خارطة للغياب.. هنا كان بيت جار، هنا لعب طفل، هنا كانت شجرة تين، هنا كان صوت امرأة تنادي أبناءها. الأزقة صارت دفتر ذكرياته، وكل حجر صار حرفاً من حكاية بلدة تمحى أمامه.
لم يكن وحده تماماً. كان يحمل معه مدينة بأكملها، أرواح من غادروا تحت التهديد. كان يمشي وفي داخله آلاف الأصوات، كأن صراخه يخرج باسمهم جميعاً. هو الكفيف الذي رأى نيابة عنهم، هو الذي بقي شاهداً حين أُجبروا على الرحيل.
في المشهد، ثمة فلسفة أعمق، بأن البقاء فعل بطولة لا يقل عن القتال. أن ترفض الرحيل يعني أنك ما زلت تقاوم، حتى ولو لم تحمل سلاحاً. وأن تضع جسدك الأعزل في مواجهة الدبابات يعني أنك انتصرت، ولو متّ. لأنك عرّيت الجندي الذي لا يجرؤ على مواجهتك دون آلة.
ذلك الرجل الكفيف لم يكن مجرد فرد. كان رمزاً لبلدة بكاملها، لمدن بأكملها تفرّغ من أهلها. كان يمثّل الصرخة الأخيرة قبل أن يسدل الليل ستاره على المكان.
في النهاية، قد يقتل، قد يسقط صراخه. لكن التاريخ سيسجل أن في بلدة صغيرة، وقف رجل كفيف وقال: لن أغادر. وستظل عبارته “أريد روبوتاً يقتلني” شاهدة على زمن صار فيه الاحتلال آلة، وصار الإنسان، الأعزل الكفيف، أوسع رؤية من كل آلاتهم.
كاتبة لبنانيّة