مقالات

في النقاش حول زوال إسرائيل

في النقاش حول زوال إسرائيل

عوض عبد الفتاح

في قلب هذا الخراب، يظل الرهان على الحَراكات الشعبية العالمية التي تتسع باستمرار، وعلى الدول في أميركا الجنوبية، وأوروبا الغربية، مثل إيرلندا وإسبانيا وغيرها، التي فاقت الأنظمة العربية أخلاقًا وشجاعة…

في السنوات الأخيرة، أخذ النقاش حول احتمالية زوال إسرائيل يتسع بصورة لافتة، منتقلاً من نطاق الرؤى الدينية الغيبية إلى فضاءات سياسية وعلمانية، لا تقتصر على العالم العربي والإسلامي فحسب، بل تشمل أوساطًا يهودية، دينية وعلمانية، داخل فلسطين وخارجها. وربما كان هذا الانتقال هو ما منح الرؤية الدينية زخمًا إضافيًا، بحيث لم تعد هذه الفكرة تُواجَه بالاستهجان أو الاستخفاف كما في الماضي.

ويبدو هذا التوجه للوهلة الأولى متناقضًا مع المشهد الراهن: قوة صهيونية منفلتة، عارية، تواصل عربدتها واستباحتها للمنطقة بلا رادع، مدعومة بأقوى إمبراطورية على وجه الأرض. غير أن هذا التناقض لم يمنع من اتساع دائرة المؤمنين بإمكانية زوال هذا الكيان، في مقابل أولئك الذين يرفضون هذه الرؤية.

ورغم ذلك، فإن بعض المنتقدين يأخذون على هذا الاعتقاد أنه قد يُغذّي نزعات الانتظار والكسل واللافعل، فيما تستعر المقتلة في غزّة بوتائر مرعبة، ويواصل المشروع الصهيوني الاستعماري توسعه في فلسطين وامتداده إلى المنطقة العربية والإسلامية. وتُضاف إلى ذلك حالة العجز الشعبي في العالم العربي، والصمت المخزي من الغالبية العظمى من رجال الدين، الذين يهابون قول كلمة الحق في وجه سلاطين الدول العربية. ونتيجة لذلك، يجد الفلسطينيون أنفسهم يُذبحون لحظة بلحظة بسكين الاحتلال، في ظل عجز غالبية الأنظمة العربية، وتواطؤ بعضها، ما يُعمّق مشاعر المرارة واليأس لديهم.

هنا ينقسم المناضلون والتقدميون إلى معسكرين: فريق يرى في النقاش حول زوال إسرائيل، وخصوصًا في فكرة قابليتها للزوال، مصدرًا للأمل والدافعية لمواصلة الصمود، وفريق آخر يرى فيه خطرًا يُغذّي الأوهام ويُعطّل الفعل العقلي والسياسي. وبين هذين الموقفين، تتبلور قراءة ثالثة أكثر اتزانًا وعلمية، لا تسقط في فخ الإنكار ولا في فخ الانتظار السلبي، بل تحاول أن تُفسّر الظاهرة من منظور موضوعي يستند إلى المعطيات التاريخية والراهنة، وتدعو إلى تطوير وتحديث أدوات الفعل والتحدي.

هذه القراءة الموضوعية لا تُقلّل من حجم الكارثة التي أنزلتها إسرائيل وحلفاؤها الغربيون، وبعض الأنظمة العربية، بالشعب الفلسطيني من خلال حرب الإبادة الجارية في غزّة، ولا تستخف بانعدام أي رادع للعربدة الصهيونية التي امتدت لتشمل قصفًا متواصلاً لدول عربية محيطة، وصولًا إلى العاصمة القطرية، في ظل انهيار ما يُعرف بمحور المقاومة بصورته السابقة. ومع ذلك، تبقى إيران قوة إقليمية وازنة في معادلة الصراع، رغم ما تعرضت له من ضربات قاسية.

لقد حسم التفوق العسكري الإسرائيلي، بدعم أميركي غير محدود، على المدى المنظور على الأقل، وقضى على أي إمكانية لتسوية، في حدها الأدنى، للقضية الفلسطينية. بل إن واشنطن باتت تسعى لتصفية هذه القضية بالكامل، وإعدام فكرة الدولة الفلسطينية نهائيًا، فيما يتراجع الوزن العربي في المعادلة الإقليمية، ويستمر الانقسام الفلسطيني في تعميق الجرح الوطني. كل ذلك يُراكم المزيد من العوائق أمام الانفراج، ويُضاعف الألم والخسائر البشرية والمادية، ويُعمّق الشعور بالانسداد.

لكن السؤال الجوهري هو: هل هذا المشهد نهائي؟ وهل هو الوجه الوحيد للمستقبل؟ الجواب: قطعًا لا.

إذ لم تعد احتمالية زوال إسرائيل، أو بالأدق زوال نظامها الاستعماري العنصري، مجرد مسألة غيبية، بل غدت فكرة تستند إلى تفكير منطقي مبني على معطيات ملموسة. وأصحاب هذا التفكير يُميّزون بين بقاء اليهود الإسرائيليين في فلسطين وبين تفكك منظومة الأبرتهايد الكولونيالي ذاتها، وهي منظومة لا يمكنها أن تدوم، لتفتح المجال أمام فضاء سياسي مدني جديد يقوم على المساواة ويحتضن الجميع.

ويُقدّم هؤلاء مجموعة من الأسباب والعوامل التي تُعزّز هذا الاحتمال، يمكن تلخيصها على النحو الآتي:

سقوط الصورة الزائفة لإسرائيل في الوعي العالمي:

لم تعد تُرى كـ”الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، بل كواحدة من أكثر الدول وحشية ودموية في العالم. وقد تعرفت أجيال جديدة ونخب واسعة على الجذور الاستعمارية الاستئصالية للمشروع الصهيوني، وأدركت أن فلسطين لم تكن أرضًا خالية، بل موطنًا لشعب قديم عريق بدأ يلج الحداثة منذ أواخر القرن التاسع عشر، قبل أن يتعرض لغزو استعماري فجّ.

انهيار خرافة الأمان ليهود العالم:

إسرائيل لم تعد “ملاذًا آمنًا”، بل أخطر مكان عليهم، إذ باتت سياساتها الإبادية تنقل الأخطار حتى إلى يهود الخارج. أمّا الإسرائيليون أنفسهم، فقد أصبحوا يُخفون هويتهم عند السفر خوفًا من الرفض أو المقاطعة. وها هو رئيس النظام، بنيامين نتنياهو، يعترف بعزلة إسرائيل ومأزقها الوجودي، مُشبّهًا إسرائيل بـ”سوبر إسبرطة”.

الانقسامات الداخلية العميقة:

منذ سنوات، عادت التناقضات البنيوية التي رافقت نشأة المشروع الصهيوني لتأخذ طابعًا حادًّا يهدد وحدة المجتمع الاستيطاني، تلك الوحدة النسبية التي تشكلت بعد إقامة الدولة.

تحولات الرأي العام الأميركي:

ثمّة تبدل متسارع في المواقف داخل الحزبين الديمقراطي والجمهوري، والأخطر أن الأجيال الشابة اليهودية في الولايات المتحدة باتت تنظر بعين ناقدة إلى إسرائيل، بعد أن كانت تُشكّل بالنسبة لليهود هناك نقطة الإجماع.

انبثاق جبهة مدنية عالمية واسعة:

هذه الجبهة تربط بين تحقيق العدالة في فلسطين وبين النضال ضد التحالف الغربي الإمبريالي الرأسمالي، وتعمل على محاصرة إسرائيل وعزلها أخلاقيًا وسياسيًا على الساحة الدولية. لقد أدركت هذه الشعوب تورط إسرائيل ليس فقط في قتل الشعب الفلسطيني، بل في المشاركة في قمع وإفقار هذه الشعوب، عبر بيع الأسلحة وتكنولوجيا المراقبة، واستنزاف اقتصاداتها.

المقاومة الفلسطينية:

تبقى العامل الأهم والحاسم. فإصرار الشعب الفلسطيني على التمسك بأرضه وحقوقه وحياته، مهما طال الزمن، هو ما يجعل مشروع الاحتلال الاستعماري هشًّا في جوهره.

إن هذه القراءة لا تعني القعود والانتظار، بل العكس تمامًا: هي دعوة للاستنفار والعمل والتصعيد، عبر رؤية تحررية إنسانية نقيضة لأيديولوجية الإبادة والعنصرية والفوقية. فسَكَرات القوة التي يعيشها قادة إسرائيل، والشعور بالخناق الدولي الذي يقضم مكانتهم السياسية والأخلاقية، يدفعهم إلى ارتكاب المزيد من الفظائع في السنوات المقبلة. وإسرائيل تُدرك هذا المسار، فتسعى إلى استغلال وجود إدارة أميركية مريضة، فاشية الطابع، لكي تُكرّس مشروعها التوسعي وتُوهِم نفسها بأنها تُحقق “أمنًا أبديًا”.

لكن هذا الجنون لن يتوقف عند حدود فلسطين، بل امتد إلى المنطقة بأسرها، حتى إلى حلفاء الولايات المتحدة أنفسهم. وهنا سيتكشف لمن راهن على التطبيع مع إسرائيل، بحجة “ترويضها”، حجم أوهامه المدمّرة.

ومع ذلك، وفي قلب هذا الخراب، يظل الرهان على الحَراكات الشعبية العالمية التي تتسع باستمرار، وعلى الدول في أميركا الجنوبية، وأوروبا الغربية، مثل إيرلندا وإسبانيا وغيرها، التي فاقت الأنظمة العربية أخلاقًا وشجاعة. فهذه الحركات والدول، بما تحمله من طاقة وزخم، تبقى الضامن الأساسي للجمّ العنف الصهيوني – الغربي، ولمحاصرة منظومته القاتلة، تمهيدًا لفتح الطريق أمام العدالة، والحرية، والتحرر. كل ذلك من شأنه أن يُحرّر الشعوب العربية من سطوة الأنظمة، ويُطلق نهوضًا حقيقيًا، ويولّد قوى تغيير جديدة تُعيد المجد لهذه الأمة، وتُنقذ نفسها، وتُخلّص الشعب الفلسطيني من المقتلة الرهيبة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب