«ماديون» لسيلين سونغ… الحب حسب الأرقام

«ماديون» لسيلين سونغ… الحب حسب الأرقام
في مهرجان برلين السينمائي، قبل عامين، خرجت من الصالة مبهوراً بفيلم هو الأول لصاحبته، باسم «حَيوات سابقة»، واستحق الفيلم من بعد عرضه الأول تعليقات نقدية مرحّبة. كان أقرب إلى نسخة معاصرة من أفلام وودي ألِن النيويوركية، حوارات وعلاقات حب مركبة، مكتوبة بذكاء وخفة. امتد ذلك إلى الفيلم الثاني للمخرجة الأمريكية سيلين سونغ، الواصل مباشرة إلى الصالات من دون عروض أولى لمهرجانات كبرى، حاملاً تجربتها الثانية إلى مساحة أقرب للفيلم التجاري، مع الحفاظ على ذكاء الكتابة وخفتها، كما ظهرتا في فيلمها الأول.
فيلم «ماديون» (Materialists) وازن ما بين عالمَي المهرجانات الأوروبية من ناحية، وصناديق التذاكر من ناحية ثانية، أي أنه، بحساسية كتابية وأداء لطيف لكل من بيدرو باسكال وداكوتا جونسون، استطاع أن يكون فيلمَ مؤلّف (أوتور) يكون بجمهور محدود ونوعي، وكذلك فيلمَ جمهور عريض، كمّي، وهذا الأخير يفوق أهميةً الأول، لدى أصحاب الفيلم، من منتجين وموزعين، في الولايات المتحدة الأمريكية تحديداً، حيث يُقاس الفيلم بمدى مردوده قبل أي شيء آخر.
هو بذلك خطوات نحو التجارية ابتعدت فيها سونغ عن فيلمها الأول، «حيوات سابقة»، وهو بذلك، وربما لذلك أيضاً، أقل شأناً فنياً، أقل رهافة وحساسية تجاه شخصياته، وأكثر انسجاماً مع نجومية الممثلين وخفة الظل التي تلوح على طول الفيلم، بما يلائم الدراما البسيطة.
هو نوع من السينما المستقلة الأمريكية التي استطاعت في الأعوام الأخيرة أن تزاحم غيرها على صناديق التذاكر، وحتى في محافل الجوائز الأمريكية. هو أقرب ليكون فيلماً مهرجاناتياً (له مشاركة هامشية في مهرجان كارلو فيفاري ضمن تظاهرة «آفاق») وجد لنفسه مكاناً مقبولاً من الجمهور العريض. فيلم بقصة عادية جعلته الحوارات اللافتة والأداء الممتع أعلى من العادي.
يحكي «الماديون» عن امرأة جميلة اسمها لوسي، تعمل في شركة تعرّف العزّاب إلى بعضهم بعضا بهدف الزواج، من دون أن تكترث بإيجاد حبيب لها. كانت في واحد من الأعراس التي مهّدت لها، حين التقت بشقيق العريس، ابن عائلة فاحشة الثراء، وتبدأ معه علاقة. في السهرة ذاتها، في الدقيقة ذاتها، تلتقي بحبيبها السابق، يعمل نادلاً في العرس. في هذا المشهد تدخل لوسي مرحلة جديدة في حياتها، تقترب بالدرجة ذاتها من كل من الرجلين، قبل أن تختار طريقاً واحداً لها أخيراً.
في الفيلم بدائيةُ قصص الحب، كما نراها في الأعمال الميلودرامية تحديداً، امرأة تقف حائرة بين رجل لطيف وثري ويعيش في بيت اشتراه بـ12 مليون دولار، وراغب فيها، ويجعلها، كما تقول، ذات قيمة، نفهم لاحقاً أنها قيمة مادية لا معنوية، وآخر فقير وممثل هاوٍ يعيش شراكةً مع آخرين في الشقة ذاتها التي تعرفها منذ سنوات، مقابل أقل من ألف دولار شهرياً. الأول ينطق المبلغ الكبير وهو نصف نائم، من دون أن يعني شيئاً له، والثاني يقولها فرحاً بأن أجرة البيت لم تعلُ منذ سنوات. هذه المفارقة، السطحية في مستواها الأول، بين الرجلين في أمكنة السكن، تلخّص الفرق بينهما، مقابل ما تبحث عنه لوسي، التي تركت حبيبها لسبب أساسي هو فقره، أو كما قالت، هو أنها لا تريد أن تكرهه بسبب فقره، فتكره بذلك ذاتها أيضاً. الحب هنا معادلات رياضية، أرقام بأرقام، الطول والعمر والدَّخل، الناس تتزوج كلّما كبر عدد الصفات المطلوبة في كل من الطرفين تجاه الآخر. الحب هنا منطق واستنتاج دليله الأرقام.
لم يصل العمل الثاني للمخرجة إلى عملها الأول في جودته الكتابية، وإن افترق عن الأول لنجومية يجمّل حضورها المَشاهد، يبقى فيلمها «حيوات سابقة» أرقى في تعقيدات القصة وأسلوب السرد المتقطع ضمن الذكريات، بخلاف السرد هنا، الخطي والآمن، غير المتكلف، الواصل بسلاسة إلى مشاهدين يبحثون عن الفيلم الـ «رومانتيك كوميدي» المعروض حالياً في الصالات. هذه الخفة في القصة وأسلوب سردها، رممته سونغ بحوارات، جميلة ولمّاحة، بعضها يصلح لاقتباسات، بعضها الآخر يمكن لنقاشات أن تدور حوله.
الفيلم الخفيف شكلاً ومضموناً، الخالي من الخلل عموماً، المتقدم في سرده بشكل مدروس، المستقر ضمن المساحة الآمنة والمفهومة واللطيفة، هذا الفيلم منح أعلى ما فيه لحواراته، ليكون أمسيةً لطيفة ولذيذة يحتاجها أحدنا بين فيلم وآخر، ويسعد به مهما كانت أولوياته وأذواقه السينمائية.
كاتب فلسطيني/ سوري