منصور عباس والنهج الجديد: حقوق أم مساومة؟

منصور عباس والنهج الجديد: حقوق أم مساومة؟
خالد تيتي
التاريخ لا يرحم السياسيين الذين يبيعون هوية شعوبهم مقابل مكاسب آنية. قد يُقال إنك فتحت بابًا جديدًا، لكن السؤال الأهم: إلى أين يقود هذا الباب؟ ومن سيتحمّل الثمن؟
لم يعد منصور عباس مجرد نائب عابر في الكنيست. الرجل نجح، بمهارة تسويقية، في قلب المعادلة السياسية وإقحام العرب في الداخل إلى طاولة النقاش الإسرائيلي بمستوى غير مسبوق. في وقتٍ كانت فيه الأحزاب العربية تحاول فقط الحفاظ على بقائها داخل اللعبة وأن تلعب دورًا بتغيير الحكم في إسرائيل، قرر أن يقفز خطوةً أبعد: لا الاكتفاء بالمعارضة التقليدية، ولا انتظار فتات القوانين، بل دخول مباشر إلى قلب الائتلاف الحكومي، وفرض حضور عربي يصعب تجاهله. هذه نقلة نوعية لم يجرؤ عليها أحد قبله، وقد بدت للبعض ثورة سياسية تفتح أفقًا جديدًا.
المسار الذي دُشّن باسم “النهج الجديد” لم يكن مجرد مناورة عابرة. لقد شكّل تحوّلًا نوعيًّا في العلاقة بين العرب في الداخل وبين الدولة. فبدل أن يكون الحضور السياسي العربي معارضًا وطنيًا يضع حدودًا واضحة أمام المشروع الصهيوني، تحوّل في خطاب الموحدة إلى شريك محتمل، إلى جزء من لعبة الحكم. هكذا فُتحت الأبواب المغلقة أمام لغة جديدة قديمة: “الحقوق مقابل الواجبات”.
هذه المعادلة في ظاهرها مساواة، لكنها في حقيقتها خضوع كامل لشرط الآخر، والظروف السياسية الحالية خير دليل على أن المعسكر المناهض لنتنياهو برئاسة نفتالي بينت ولبيد يقوم بتضليل ناخبيه عبر التصريح بعدم نيته إعادة تجربة إشراك منصور عباس في الائتلاف القادم لكي يكسب مصوّتَي اليمين، إلا أن الحقيقة هي أن منصور عباس في خانة الاحتياط إلا ما بعد الحسابات الائتلافية. فهو إما مفهومًا ضمنًا وإما متروكًا لشروط الخطوط العريضة التي وضعها ليبرمان للإئتلاف القادم والتي مفادها: من لا يخدم لا يصوّت.
إلى أين يقود هذا الطريق؟ وهل ما بدا في البداية واقعيًا وتأثيرًا، ليس في جوهره إلا صياغة خطيرة للعلاقة بالدولة؟ وما هو الثمن الذي سيدفعه العرب في إسرائيل إذا ساد هذا النهج؟
فالحقوق، بحكم المنطق السياسي والدستوري، لا تُشترى ولا تُمنح بشرط، بل هي لصيقة بالوجود والمواطَنة. لكن النهج الذي يسوّقه منصور عباس يفرغ هذا المبدأ من مضمونه: كل شيء يصبح قابلاً للتفاوض – من التعليم والصحّة إلى الهوية والانتماء. وفي لحظة سياسية تغلي فيها إسرائيل بانزياحات فاشية متسارعة، تتحول هذه المعادلة إلى فخّ تاريخي: كل تنازل يُفتح الباب لمزيد من التنازلات، وكل تسوية تُهيّئ الأرضية لتسوية أعمق.
ولقد عرفنا المواطَنة الإسرائيلية منذ قيام الدولة كمفهومٍ “مواطَنة ناقصة”: هوية منقوصة، حقوق منقوصة، وحيّز سياسي ضيّق. وكان نضالنا يقوم على توسيع هذه المواطَنة مع الحفاظ على الانتماء الوطني. أما خطاب منصور عباس فقد نقله إلى مستوى خطير: “مواطَنة مشروطة” بلسان عربي، أي أن الحق لم يعد حقًا، بل امتيازًا مقابل الخدمة والولاء. وهنا يفتح الباب لما لم يكن مطروحًا يومًا بشكل جدي: الخدمة المدنية، وربّما لاحقًا العسكرية، كجزء من معادلة الحقوق والواجبات.
لكن التجنيد ليس سوى العرض الأكثر صخبًا. في العمق، الخطر هو فقدان القدرة على المعارضة الوطنية. حين يضع السياسي نفسه في موقع الشريك، يخسر حقّه في أن يقول “لا”. يصبح الوسيط الذي يقيس إنجازاته بعدد الاتفاقيات واللقاءات مع الوزراء، لا بأحقية مطلبه. هكذا تتحول القيادة من تعبير عن هوية جماعية إلى دور وظيفي، ومن مشروع وطني إلى إدارة محلية موسّعة.
التاريخ القريب يفضح هذه المعادلة. حين لعبت الأحزاب لعبة التوصية على رؤساء حكومات إسرائيل، قيل إن الهدف إسقاط نتنياهو. لكن النتيجة كانت العكس: لم يسقط اليمين، ولم تتحقّق المساواة، بل خسرنا وحدة القائمة المشتركة وثقة الجمهور. واليوم، يعاد إنتاج اللعبة نفسها تحت عنوان “النهج الجديد”، لكن بثمن أكبر. هذه ليست واقعية، بل إعادة إنتاج للوهم نفسه.
إن ما يقدمه منصور عباس لأنصاره ليس براغماتية، بل وهم مغطّى بلغة براقة. لأن البراغماتية الحقيقية تعرف حدودها: تعرف أن ما لا يُمكن أخذه بالاندماج يُؤخذ بالتنظيم والضغط والتمسّك بالثوابت. أمّا نهجه فيتخلّى عن الحدود، ويحوّل المجتمع إلى تابع ينتظر عطايا المؤسسة. وفي مجتمع إسرائيلي يزداد فاشية، تصبح هذه الوصفة وصفة عجز لا وصفة حماية.
الناس ترى الأثمان يوميًا: الجريمة المنظمة تتفاقم، البلديات تُفرغ من سلطتها، الأطبّاء والطلاب العرب يتعرّضون للتحريض، والأفق السياسي يضيق. هل يمكن إقناع جيلٍ كامل أن مستقبله يتوقف على حجم ولائه للمؤسسة التي تبني شرعيتها على إقصائه؟ هذا ليس منطقًا سياسيًا، بل مأزق أخلاقي.
هذا النهج يسلب منا من أهم سلاح نملكه: قوة الرفض. الرفض ليس ترفًا، بل شرط وجود. من دونه نصبح مجتمعًا منزوع السقف، يفاوض على حقوقه كما يفاوض العامل على أجره. لكننا لسنا عمالًا عند مؤسسة، نحن أصحاب الأرض والهوية. ومجتمع بلا “لا” هو مجتمع بلا مستقبل في وقت يطالب فيه الناس بالعودة إلى الوحدة الوطنية الصادقة التي تضع على رأس سلم الأولويات الفعل الجماعي الموحد لا المشروع الحزبي الضيق.
من هنا، الرسالة إلى منصور عباس واضحة بلغته ولغة حملته الانتخابية: لا شكّ أنّك تقدّم منتجًا يلقى رواجًا لأسباب مادية موضوعية، ولا شكّ أنّ نهجك يحظى بدعم جزءٍ لا يستهان به من الناس، إلا أنّ الطريق الذي تسلكه لا يقود إلى مساواة، بل إلى مساومة. لا يحمي المجتمع، بل يسلّمه. وقد يُسجّل في التاريخ لا كمن جلب الميزانيات، بل كمن شرعن مشروعًا خطيرًا فتح الباب لتذويب مجتمعٍ بأكمله.
التاريخ لا يرحم السياسيين الذين يبيعون هوية شعوبهم مقابل مكاسب آنية. قد يُقال إنك فتحت بابًا جديدًا، لكن السؤال الأهم: إلى أين يقود هذا الباب؟ ومن سيتحمّل الثمن؟