
فضل شاكر وزياد الرحباني والعدل الذي يُبكي الجن

راشد عيسى
اشتعل الجدل مجدداً مع تسليم الفنان اللبناني فضل شاكر نفسه لمخابرات الجيش اللبناني، هو المطارد منذ العام 2012، والمحكوم بأحكام غيابية بالسجن لسنوات.
جدل لم ينطفئ أساساً خلال السنوات الأخيرة، خصوصاً مع تجدد نشاط الفنان، وإطلاقه أغنيات حازت ملايين المشاهدات على وسائل التواصل الاجتماعي. فليس أمراً عادياً أن يكون فنان محبوب بجمال صوته حبيس بضعة كيلومترات في مخيم عين الحلوة الفلسطيني، في وقت كان في إمكان صوته أن يحمله إلى مشارق الأرض ومغاربها.
كل تصريح طائفي مذهبي تحريضي مرفوض، لكن لا بد من النظر إلى السياق، على الأقل كعذر مخفف، يُسهم في فهم الأمور
لا يخفى أنه يطغى على الجدل، خصوصاً في لبنان، قدر من الشماتة لوقوع الفنان في مصيره المحتوم، وكأنه لم يكن كافياً مصيره المحزن وراء جدران المخيم العالية، وظلمة كليباته الأخيرة ونظاراته الشمسية التي راح يخفي عبرها تعب عينين ما من سبيل إلى إضاءتهما في المكان شبه المحاصر.
الشامتون اليوم يجهدون في شيطنة فضل شاكر أكثر فأكثر، في محاولة للتأثير على أحكام القضاء اللبناني، ومن المرجح أن يعود الأخير إلى محاكمته من الصفر. هؤلاء هم «حزب الله» وحاضنته، وهم لم يعودوا في السلطة، وربما هذا هو سبب اطمئنان الفنان إلى قضاء مستقل لم يعد تحت تأثيرهم.
ولكن ما الذي فعله الفنان أساساً كي يستحق هذا المصير؟ وهو قد دفع ثمناً هائلاً حين دُفع للاختباء بعيداً عن حياته العادية وأمكنته الأثيرة. ما يسجل بحق شاكر، وهذا ما سيقرره القضاء ويحسمه في النهاية، مجرد تصريحات قد يكون تورط خلالها بكلام طائفي ومذهبي تحريضي، لكن هل يجوز النظر إلى تصريح طائفي من دون السياق الذي جاء فيه؟
دولة الحزب
من ادعى على فضل شاكر وطارده هو دولة «حزب الله» وقضاؤها، وهي كانت خصماً لشاكر، ولعلها هي من دفعه ليكون في الموقع الطائفي الذي بلغه، من ملك الرومانسية في الأغاني إلى مسيّس منتمٍ لجماعة مذهبية تواجه «الدولة» بالسلاح. بالنسبة لكثير من مهاجمي شاكر الدولة هي الجيش اللبناني، فيما الحقيقة هي أن الدولة ليست سوى الحزب، وهناك شهادات كثيرة تتحدث عن أن المعركة الحقيقية في عبرا، في صيدا الجنوبية اللبنانية، كانت بين جماعة الشيخ أحمد الأسير، ممثلاً لجماعة سنّية، والحزب الشيعي متخفياً وراء الجيش.
انشغل شاكر حينذاك، ولبعض الوقت، بالسياسة، منحازاً خصوصاً للثورة السورية، وللضحايا على يد النظام السوري، وله تصريح فاجأ الجمهور المغربي، في واحدة من حفلاته هناك، حين بدأ بالدعاء على الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، وطلب من الجمهور أن يقول وراءه «آمين». وعادى «حزب الله» صراحة، وأعلن انتماءه للقضية الفلسطينية مطالباً بجنسيتها.
ومنذ ذلك الوقت لم يهدأ له بال، ومن البديهي أن يحارَب ويشَيْطَن رجل بمثل تأثيره، ومن الطبيعي أيضاً أن يبقى على الدوام في دائرة الفعل ورد الفعل.
كل تصريح طائفي مذهبي تحريضي مرفوض، لا شك في ذلك، لكن لا بد من النظر إلى السياق، على الأقل كعذر مخفف، ويسهم في فهم الأمور. وسيكون القضاء اللبناني في الأيام والأسابيع المقبلة تحت الاختبار. وهو من سيحدد أي ارتكابات وقعت، وما دور شاكر فيها.
لكن فيما نتتبع هذا التدقيق والتوثيق لكل حرف نطق به شاكر، وكل مكان ذهب إليه أثناء أحداث عبرا، نتساءل إن كانت تلك المناظير قادرة على مشاهدة فظائع الجهة المقابلة، إنهم يتحدثون عن تصريحات لفضل شاكر، فيما لهم ولحزبهم فظائع مرعبة، من سلسلة اغتيالات ألمع رجال لبنان، سياسيين ومثقفين معارضين، إلى الاستئثار بالدولة اللبنانية، إلى 7 أيار/مايو واستعراض القوة في شوارع بيروت، وصولاً إلى المجازر المرتكبة خارج الحدود، لغرض مذهبي خالص، حيث يؤخذ لبنان وأبناؤه للقتال من أجل حماية مقام ديني شيعي في دمشق.
وهل يخفى أن الحزب طائفي حتى النخاع! قاتَلَ وائتمرَ باسم إيران الشيعية؟ إذن نحاسب مغنياً على تصريح، فيما نمشي ونطلب السترة أمام حزب بات مهزوماً اليوم، رغم كل التوثيق لجرائمه التي ليست بحاجة إلى تدقيق.
ليس المطلوب اليوم من القضاء اللبناني الإنصاف وحسب، بل لا بد من مساءلة لبنان وأحزابه ودويلاته عن سنوات مهدورة من عمر مواطن.
رحل منذ بعض الوقت الفنان زياد الرحباني، واحتفى برحيله كل لبنان، وتفجّعَ، وسُجل شارع باسمه،.. في الرثاءات هائلة العدد التي أطلقت في رحيله قلّما وجدت انتقاداًَ لانحيازه لأكبر جماعة طائفية هددت لبنان والمنطقة، بل لن تجد انتقاداً حتى لدعوته الصريحة لبقاء بشار الأسد مفضلاً إياه بحجة غموض المستقبل، ولن تجد استنكاراً أو تذكيراً بعبارته التي لم يجرؤ عليها الحزب نفسه: «الإيرانيون هم من يجب أن يخاف، فهم أقلية في بحر من البلدان السنّية».
لا نطالب اليوم أن يكون لفضل شاكر شارع باسمه، ولا أن يتم الاعتذار منه على سنوات الملاحقة والاختفاء… فقط اتركوه، دعوه يغني
ستقول لي إن زياد لم يرافق جماعة مسلحة كما فعل فضل، كيف؟ وقوف زياد لسنوات طوال إلى جانب جماعة «حزب الله» المسلحة والمدججة بالصواريخ التي ورطت لبنان والمنطقة بطولة، ووقفة فضل إلى جانب جماعة سنية غاضبة لم تعمر سوى وقت قصير للغاية، يستحق المحاكمة!
أما عن المواجهة مع الجيش اللبناني فهل كانت مواجهة واحتقار «حزب الله» للجيش أقل مما فعلت جماعة الأسير؟
دعوه يغني
وإذا كان فضل شاكر قد أظهر، في السنوات الأخيرة، تحولاً صريحاً مما بدا عليه العام 2012 بخصوص تديّنه المباغت واعتزاله الفن لصالح العمل الدعوي، بحيث يبدو كل ذلك الآن مجرد نزوة فكرية لمراهق، أو ردة فعل على طائفية الحزب الطافحة، أو ربما بفعل التحمّس للربيع العربي الذي سرعان ما وصل إلى الجوار السوري، فإن اعتقادات زياد الرحباني بدت راسخة، فهو لم يكف لحظة عن تكرارها وترديدها كلما ظهر، ولم أفاجأ حين قرأت أمس من يلوم رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام على تسميته شارعاً باسم زياد، هو الذي لو كان اليوم هنا لكان واحداً من ألد خصوم الحكومة ورئيسها، وربما على رأس المحتفلين المجتمعين أمام صخرة الروشة رافعين صور حسن نصر الله ونائبه.
لا نطالب اليوم بالطبع أن يكون لفضل شاكر شارع باسمه، ولا أن يتم الاعتذار منه على سنوات الملاحقة والاختفاء، ولا توجيه التحية لموقفه النبيل من سوريا وثورتها وضحاياها، كما موقفه من قضية فلسطين.. فقط اتركوه، دعوه يغني.
* كاتب من أسرة «القدس العربي»