منوعات

الولد الفلسطيني الذي أغضب إسرائيل

الولد الفلسطيني الذي أغضب إسرائيل

راشد عيسى

في انتقاداته لرئيس حكومته، في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، ينصح الكاتب الإسرائيلي شمعون شيفر بنيامين نتنياهو بأن يتعلم «دروس التاريخ والانتفاضات الفلسطينية منذ 1936»، متسائلاً عن وعي الإسرائيليين: «هل يتغير وينضج للبحث عن حل سلمي؟»، معتبراً أن «الحل غير موجود في خطوط طيران إلى دبي، بل في معبر بين كفر سابا الإسرائيلية وجارتها الفلسطينية قلقيلية».
ويقصد شيفر، على ما يبدو، بأن الحل ليس في التطبيع بعيداً عن ساحة الحرب والمعاناة، ولا في اتفاقيات أبراهام، بل في جسر المسافة بين نقطتين متلاصقتين نظرياً، بينهما، عملياً، ما صَنَع الحداد: كفر سابا، داخل الخط الأخضر، في أراضي 48، وقلقيلية.

من مكتبه في كفر سابا، التقط المخرج الإسرائيلي شاي كارميلي-بولاك نبض الفلسطينيين خلف الجدار، فصنع فيلماً عن الأمل وسط الحصار

الضفة المحتلة تعتبر جبهة ثانية للحرب الإسرائيلية المستمرة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وإلى جانب اقتحامات الجيش الإسرائيلي، وعمليات القتل والاعتقال وهدم وتخريب البنى التحتية، والتهجير القسري، خصوصاً للمخيمات، واعتداءات المستوطنين، وإقامة المستوطنات، هناك أكثر من مئتي ألف عامل فلسطيني كانوا يتوجهون يومياً إلى مدن وبلدات إسرائيلية للعمل باتوا، منذ 7 أكتوبر، عاطلين عن العمل، ما فاقم أزمة اقتصادية خانقة في الأساس.
الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، التي راكمت تلك الأزمات في الضفة، هي أبعد ما تكون عن التفكير بجسر المسافة بين كفر سابا وقلقيلية، مع تصريحات وتهديدات علنية لوزراء بالحرق والمحو والتهجير، لكن هذا ما حاوله بالفعل المخرج الإسرائيلي شاي كارميلي – بولاك في فيلمه «البحر»، الحائز أخيراً جوائز إسرائيلية رفيعة، مثيراً ردود فعل حكومية حانقة.

التوق إلى البحر
يروي فيلم «البحر» حكاية فتى فلسطيني (12 عاماً) يحلم بالوصول إلى البحر، لكنه يعاد من حاجز إسرائيلي عندما يحاول مع رحلة مدرسية، لكن خالد، وهذا هو اسم الفتى، يحاول العبور بمفرده. هذه المرة المغامرة ليست، على غرار ما شاهدنا في فيلم «الجنة الآن» لهاني أبو أسعد، وسواه من أفلام، للوصول إلى عملية استشهادية. أبداً، كل ما يريده الفتى هو أن يشم رائحة البحر. عندما يعلم والده بأن فتاه مفقود في قلب تلك المغامرة، يبحث عن جهة البحر، من دون معرفة بالعبرية، من دون بوصلة ولا دليل في متاهات الدروب، يترك عمله مغامراً بتعريض نفسه للاعتقال، فهو داخل الخط الأخضر كعامل يومي من دون تصريح.
الفيلم يروي إذن حالة الحصار الفلسطينية عبر توق ولدٍ من سكان رام الله للبحر، مدينة لا تبعد سوى عشرات الكيلومترات عن الأبيض المتوسط.
الفيلم حاز عدة جوائز في حفل «أوفير» الإسرائيلي. من بينها: جائزة أفضل فيلم، جائزة أفضل سيناريو، جائزة أفضل ممثل مساعد لخليفة ناطور (في دور والد الطفل الفلسطيني)، جائزة أفضل موسيقى أصلية لآفي بيليلي، وجائزة أفضل ممثل للفتى محمد غزاوي، الذي بدا في فيلم ترويجي متداول على مواقع التواصل مذهلاً في أدائه. وكان المخرج قد اكتشف موهبة غزاوي عند تقييم تجربة أداء لأطفال فلسطينيين من نادٍ للملاكمة التايلاندية مليء بالفتية «القساة». ولم يكن الفتى يعرف شيئاً عن التمثيل، ومن دون أي تجربة سابقة، ولم يكن يتحدث العبرية. يقول كارميلي- بولاك: «لم ألاحظ في البداية صُورتَه. عدتُ إلى المنزل، حيث شاهدت الفيديو، وفكّرت.. يا للهول! إن هذا الطفل موهوب جداً».

الجوائز، التي يشار إليها غالباً باسم «الأوسكار الإسرائيلي»، ستعني أن الفيلم مرشح تلقائياً لتمثيل إسرائيل في أوسكار 2026.
ولذلك فإن أبرز الانتقادات جاءت من وزير الثقافة والرياضة الإسرائيلي زوهار، الذي قال: «في عهدي بالوزارة، لن يدفع المواطنون الإسرائيليون من جيوبهم لتنظيم حفل يبصق في وجوه جنودنا الأبطال». وقد وصف حفل توزيع الجوائز بأنه «مخزٍ»، معلناً وقف تمويل الجائزة.
يريد الفيلم أن يروي الحصار الرهيب بأكثر الطرق بساطة، لا توصيفات من قبيل «إبادة جماعية» ومشتقاتها مما يحدث فعلاً في الواقع، فقط يصوّر هذه الرغبة الطفولية العارمة في بلوغ البحر، وربما كان هذا الاختيار البارع ما جعل أقطاب الحكومة اليمينية على خصام مع الفيلم.
ولكن أليس بالفعل هذا ما يريده الفلسطينيون سواء في الضفة أو غزة، وفي كل مكان؟ التنفس بحرية، والوصول إلى أحبائهم من دون انتظار رهيب على الحواجز، بل والوصول إلى حقولهم التي ولدوا فيها أباً عن جد من دون انتظار ولا جدران ولا محاولات سيزيفية!

ما يستطيعه الفن لن تقدر عليه آلهة الحرب. والمسافة بين كفر سابا وقلقيلية قريبة جداً لمن لديه بقية من ضمير، مستحيلة وقصيّة على سواهم

لدينا ما نفعله
أمس، قرأت لشاعرة من غزة تتساءل، إثر إعلان وقف إطلاق النار، ماذا يفعل الناجون من الحرب، وهي تحاول، ربما، استعادة تلك الصيحة المكررة: «والآن، ماذا سيحل بنا من دون برابرة؟». مع أن المرء يحسب أن هذه العبارة المستعملة لم تعد تنفع هنا، فلدى الفلسطينيين مليون تفصيل ونزوة كنزوة خالد، بطل فيلم «البحر»، إنهم يتحرّقون لابتعاد البرابرة شبراً واحداً كي يتمكنوا من شربة ماء، وابتلاع لقمتهم على مهل، وإغماض العيون من دون ترقّب لزنّ الزنّانات في سماواتهم، الاستناد إلى جدار، تفقّد من بقي حياً، ومن بات في عداد الشهداء، البكاء بكامل قوتهم، مداواة حميرهم، وإصلاح سياراتهم.
من مكتبه في كفر سابا، حيث يعمل فعلاً لا مجازاً، استطاع المخرج شاي كارميلي- بولاك أن يتحسس أوجاع الفلسطينيين في الضفة، حيث الفصل العنصري، وسعار الاستيطان، وقسوة الحصار، فكان لديه من الشجاعة وقوة القلب أن يروي حالة الحصار، متحدياً الجنون الإسرائيلي على مختلف الجبهات، الأمر الذي يفعله طوال الوقت شجعان آخرون مثل جدعون ليفي وعميره هاس ويوفال أبراهام الذي شارك في «لا أرض أخرى» الحائز أوسكار أفضل فيلم وثائقي العام 2025..
ما يستطيعه الفن لن تقدر عليه آلهة الحرب. والمسافة بين كفر سابا وقلقيلية قريبة جداً لمن لديه بقية من ضمير، مستحيلة وقصيّة على سواهم.

* كاتب من أسرة «القدس العربي»

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب