أوّل اختبار لوقف إطلاق النار: إسرائيل تريد فرض قواعدها

أوّل اختبار لوقف إطلاق النار: إسرائيل تريد فرض قواعدها
تستخدم إسرائيل الغطاء الأميركي لتبرير تصعيد معدّ مسبق في غزّة، مستغلّة وقف الحرب لتحديث أهدافها وفرض معادلات جديدة ترسّخ «السيناريو اللبناني».

غزّة | استغلّ جيش الاحتلال وقوع «حدث أمني» في مدينة رفح جنوبي قطاع غزة، لفتح بوابة النار مجدّداً على القطاع. وتباينت الروايات التي نقلها المراسلون العسكريون بشكل كبير؛ إذ زعم الإعلام العبري في البداية أن قوة من «كتائب القسام» كانت في طريقها لتنفيذ إغارة على مخبأ العميل ياسر أبو شباب في رفح، ففوجئت بقوة عسكرية إسرائيلية، وقامت بإطلاق صاروخ مضادّ للدروع أو تفجير عبوة ناسفة بآلية عسكرية من نوع «باجر»، ثم الاشتباك مع الجنود الإسرائيليين، ما أدّى إلى مقتل جنديين وإصابة ثلاثة آخرين بجروح متفاوتة.
غير أن تلك الرواية فنّدتها «كتائب القسام» في تصريح صحافي، أكّدت فيه أنه لا علم لها أو علاقة بـ«الحدث الأمني» الذي أعلنه العدو. وقالت «القسام»: «نؤكد على التزامنا الكامل بتنفيذ كل ما تمّ الاتفاق عليه، وفي مقدّمته وقف إطلاق النار في جميع مناطق قطاع غزة، ولا علم لنا بأيّ أحداث أو اشتباكات تجري في منطقة رفح، حيث إن هذه المناطق حمراء، تقع تحت سيطرة الاحتلال، والاتصال مقطوع بما تبقّى من مجموعات لنا هناك، منذ عودة الحرب في آذار من العام الجاري».
في المقابل، دعا كلٌّ من وزير «الأمن القومي» إيتمار بن غفير، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، إلى العودة المكثّفة إلى الحرب حتى تحقيق أهدافها المتمثّلة في القضاء على حركة «حماس» وتهجير الفلسطينيين من القطاع، وضمان أن لا تشكل غزة أي تهديد أمني على إسرائيل. وبينما كانت الطائرات الحربية تشنّ غارات على أهداف متفرقة، أعلن مكتب رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، إغلاق كلّ معابر القطاع في وجه المساعدات الإنسانية حتى إشعار آخر.
على أن علامات الاستفهام التي تحيط بصدقية وقوع الحدث المُفترض، تعزّزت مع بيان أصدرته وزارة الخارجية الأميركية في وقت متأخر من ليل أمس، حذّرت فيه من «هجوم وشيك» ستنفّذه حركة «حماس» ضد «شعب غزة»، في إشارة إلى مجموعات العملاء التي تعمل تحت رعاية الاحتلال في مناطق الخط الأصفر. وممّا جاء في بيان الخارجية أنّ هذا «الهجوم المخطّط» ضد المدنيين الفلسطينيين سيشكّل «انتهاكاً مباشراً وجسيماً لاتفاق وقف إطلاق النار، وسيقوّض التقدّم الكبير المتحقّق عبر جهود الوساطة. وتطالب الدول الضامنة «حماس» بالوفاء ببنود اتفاق وقف إطلاق النار».
وهكذا، تقاطعت هذه التحذيرات مع الحدث الغامض الذي نفت المقاومة مسؤوليتها عنه، ومع بنك الأهداف الدسم الذي طاولته الغارات المكثّفة والمجهّزة سلفاً. وعزّز هذا التقاطع فرضية السيناريو المُعدّ مُسبقاً، والذي يوفّر فيه الأميركيون الغطاء السياسي للخطوات الميدانية الإسرائيلية على الأرض، من خلال صنع السردية التي ينطلق منها الفعل لتحقيق غايات سياسية داخلية وميدانية ملحّة.
وفي الساعات الأولى من بدء الغارات الإسرائيلية، تمكّن جيش الاحتلال من اغتيال قائد قوات النخبة في «كتيبة جباليا»، يحيى المبحوح، ونائبه مصطفى الصوالحة، واثنين من مساعديه، هما زكريا أبو حبل ومحمد أبو رفيع، وذلك في قصف نفّذته طائرة مُسيّرة استهدفهم أثناء وجودهم على شاطئ بحر مدينة دير البلح وسط قطاع غزة. وإذ جاء الاستهداف في منطقة بعيدة عن نقاط التوتر والاشتباك، فهو بدا مستنداً إلى معلومة استخبارية دقيقة، علماً أن الشهداء الأربعة نجوا خلال نحو عامين من الحرب من عشرات محاولات الاغتيال، وشاركوا بفاعلية في معارك مخيم جباليا الثلاث.
مثّلت جولة التصعيد اختباراً لدور الوسطاء وحدود المساحة المسموح بها أميركياً
وتلا هذا الاغتيال قصف جوي تصاعد على نحوٍ أعاد الحرب إلى أيام ذروتها؛ إذ أغارت طائرة مُسيّرة على خيمة تؤوي نازحين في مخيم النصيرات وسط مدينة غزة، ما أدّى إلى ارتقاء ثلاثة شهداء وإصابة آخرين. كما استهدفت الطائرات الحربية منزل عائلة عبد الهادي في مخيم البريج وسط القطاع، وقصفت خيمة تؤوي نازحين في منطقة مواصي خانيونس جنوباً، ما أسفر عن استشهاد سيدة وطفلين وإصابة عدد من الجرحى. وفي منطقة الزوايدة في الوسط، استهدفت طائرة مُسيّرة مبنى تابعاً لـ«شركة فلسطين» للإنتاج الإعلامي، ما أدّى إلى ارتقاء الزميل الصحافي محمد مطير، ونجل الزميل الصحافي محمد الزعانين.
أمّا شمالاً، فأغارت الطائرات الحربية على تجمّع للمواطنين في محيط مستشفى «كمال عدوان»، ما أوقع شهيداً وعدداً من الجرحى، قبل أن تقصف طائرات الاحتلال تجمّعاً آخر للمواطنين في شارع أبو حصيرة غربي مدينة غزة، موقعة ثلاثة شهداء وعدداً من الإصابات.
وفي مدينة خانيونس جنوباً، نفّذ سلاح الجو الإسرائيلي حزاماً نارياً بأكثر من 120 غارة، زاعماً أنّه استهدف مسار أحد الأنفاق الذي كانت تستخدمه المقاومة في احتجاز أسرى إسرائيليين.
أمّا في مخيم النصيرات، فارتكب جيش الاحتلال مجزرة استهدف فيها «مدرسة السردي» التي تؤوي نازحين، ما أدّى إلى استشهاد ستة نازحين معظمهم من النساء والأطفال. كما أغارت الطائرات الحربية على منزل يؤوي نازحين في حي السوارحة في حيّ الزوايدة وسط القطاع، واستهدفت الطائرات المُسيّرة خيمة أخرى تؤوي نازحين في مخيّم النصيرات. وفي المساء، أغار الطيران الحربي على شقة سكنية في عمارة «باندا مول» غربي مدينة غزة، متسبّباً بارتقاء ثلاثة شهداء.
وبحسب وزارة الصحة في غزة، ارتقى 44 شهيداً وأُصيب العشرات من المواطنين، جرّاء استهداف نحو 120 هدفاً بمئات الغارات على طول القطاع، وذلك قبل أن يعلن جيش الاحتلال العودة إلى الالتزام بوقف إطلاق النار والتراجع عن إغلاق المعابر الحدودية أمام المساعدات.
وتحمل التطورات التي شهدها القطاع، أمس، جملة مؤشرات تدلّل على ما سيحكم المشهد في المرحلة المقبلة:
– يجتهد جيش الاحتلال في تحديث بنك أهدافه، مستغلاً حالة التراخي الأمني التي رافقت الإعلان عن وقف الحرب.
– يريد رئيس وزراء الاحتلال البعث بعدة رسائل: الأولى، إلى الداخل الإسرائيلي، لتوضيح ماهية الاتفاق الذي تمّ التوقيع عليه في شرم الشيخ، بوصفه يمنح إسرائيل فرصة دائمة لاستخدام النار كلّما سنحت الفرصة، ويعيد إنتاج «السيناريو اللبناني» في قطاع غزة على نحوٍ أكثر سوءاً. أما الثانية، فإلى حركة «حماس»، ومفادها أنها تجاوزت الخط الأحمر المسموح لها به في إعادة السيطرة على القطاع وبناء وقائع ميدانية تحفظ وجودها في المرحلة المقبلة.
– حاول جيش الاحتلال من خلال هذه الجولة، طمأنة مجموعات العملاء التي تعرّضت لضربة معنوية عقب القضاء على بعض الحالات المسلحة التي مثّلت تحدياً أمنياً لـ«حماس» في غضون أيام، خصوصاً عقب تنفيذ المقاومة عمليات قنص طاولت العملاء في مناطق سيطرة جيش الاحتلال.
– مثّلت جولة التصعيد اختباراً لدور الوسطاء وحدود المساحة المسموح بها أميركياً؛ إذ عاد جيش الاحتلال إلى الالتزام بوقف إطلاق النار مساء اليوم نفسه، فيما لم يستطع مكتب نتنياهو فرض إغلاق المعابر في وجه المساعدات الإنسانية، ما تسبّب بسخط بن غفير الذي وصف الأمر بـ«المخزي».