حين كسرت إسبانيا الإجماع الأوروبي.. لماذا وقفت إسبانيا إلى جانب غزة؟

حين كسرت إسبانيا الإجماع الأوروبي.. لماذا وقفت إسبانيا إلى جانب غزة؟
في السنوات الأخيرة، برزت إسبانيا كصوتٍ مختلف داخل الاتحاد الأوروبي في مقاربتها لأزمات الشرق الأوسط، وعلى رأسها الحرب في غزة. فبعد عقود من التماهي مع الموقف الأوروبي التقليدي القائم على “الدعوة لحل الدولتين” دون ترجمة عملية، شهدت السياسة الخارجية الإسبانية منذ عام 2023 تحولًا نوعيًا نحو نهجٍ أكثر استقلالًا وفاعلية.
من النقد إلى الفعل السياسي
بدأت ملامح التحوّل منذ اندلاع حرب غزة في أكتوبر 2023، حينما تبنّت معظم العواصم الأوروبية خطاب الدفاع عن “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، متجاهلة الانتهاكات ضد المدنيين. لكن مدريد اختارت طريقًا آخر، إذ ندد رئيس الوزراء بيدرو سانشيز علنًا بما وصفه بـ”القتل العشوائي للمدنيين في غزة”، لتصبح أول عاصمة أوروبية تكسر صمت الإجماع الغربي.
ترجم هذا الموقف سريعًا إلى خطوات ملموسة: تعليق صادرات السلاح إلى إسرائيل في أكتوبر 2023، ثم إلغاء عقد شراء ذخائر إسرائيلية في أبريل 2025، وصولًا إلى مرسوم ملكي يفرض حظرًا دائمًا على تصدير الأسلحة إلى تل أبيب. كما قادت إسبانيا جهودًا داخل الاتحاد الأوروبي لدعم المساعدات الإنسانية لغزة وتعزيز التحقيقات في جرائم الحرب أمام محكمة العدل الدولية والجنائية الدولية.
الاعتراف بدولة فلسطين: من الرمز إلى الموقف
بلغ التحول الإسباني ذروته في مايو 2024 حين أعلنت مدريد رسميًا اعترافها بدولة فلسطين، لتنضم إلى أكثر من 140 دولة حول العالم. ورغم أن الاعتراف يحمل طابعًا رمزيًا، إلا أنه مثّل رسالة سياسية قوية عن إصرار مدريد على إعادة إحياء حل الدولتين في مواجهة الانحياز الغربي لإسرائيل.
ولم يقتصر الدعم الإسباني على الجانب الدبلوماسي، بل شمل نشاطًا في الأمم المتحدة، حيث دفعت بمشروع قرار في يونيو 2025 يدعو إلى حماية المدنيين في غزة ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة، وحظي بتأييد واسع من الدول الأعضاء.
جذور داخلية تدفع نحو الانفتاح
التحوّل الإسباني لم يكن وليد أزمة غزة وحدها، بل نتاج تفاعل بين عوامل داخلية وخارجية متشابكة.
داخليًا، يقود بيدرو سانشيز حكومة ائتلافية يسارية مدعومة من أحزاب راديكالية وتقدمية مثل بوديموس وسومار، لطالما تبنّت خطابًا مؤيدًا للحقوق الفلسطينية ومعارضًا للاستعمار. كما أن الرأي العام الإسباني كان داعمًا بقوة لهذا التوجه، إذ أظهرت استطلاعات الرأي أن أكثر من 78% من الإسبان يؤيدون الاعتراف بدولة فلسطين، ما منح الحكومة غطاءً شعبيًا لتبنّي مواقف أكثر جرأة.
يُضاف إلى ذلك الإرث التاريخي لإسبانيا في علاقتها مع العالم العربي، والذي تشكّل خلال حقبة فرانكو حين كانت مدريد منفتحة على الدول العربية في ظل عزلتها الأوروبية، ما ترك أثرًا ثقافيًا وسياسيًا جعل من التعاطف مع القضايا العربية جزءًا من الوجدان الإسباني.
حسابات الخارج: بين أوروبا والعالم
خارجيًا، جاء هذا التحول استجابةً لثلاثة عوامل رئيسية:
أولها، الحرب في غزة وما خلّفته من مشاهد مروعة وضعت الغرب أمام اختبار أخلاقي عسير، دفعت مدريد إلى اتخاذ موقف مغاير.
ثانيها، الانقسام داخل الاتحاد الأوروبي بين محور داعم لإسرائيل تقوده ألمانيا والنمسا والمجر، ومحور نقدي تقدمي تتزعمه إسبانيا وإيرلندا وبلجيكا، ما أتاح لمدريد فرصة قيادة تيار أوروبي جديد أكثر توازنًا.
وثالثها، إدراك إسبانيا لتنامي عزلة المعسكر الغربي عالميًا، في ظل إجماع دولي واسع على ضرورة وقف الحرب والاعتراف بفلسطين، ما دفعها إلى استعادة دورها التاريخي كجسر بين أوروبا والعالم العربي.
التقاطع مع المواقف العربية
التقت السياسة الإسبانية الجديدة مع الموقفين المصري والقطري في عدة قضايا جوهرية: الدعوة لوقف إطلاق النار فورًا، حماية المدنيين، ورفض أي سيناريو لتهجير سكان غزة. كما شاركت مدريد في مجموعة “+Madrid” التي تضم مصر، الأردن، قطر، السعودية، وتركيا، والتي تعمل على بلورة مبادرات سياسية لإنهاء الحرب ودفع عملية إعادة الإعمار.
وتبرز أهمية هذا التنسيق في كونه يؤسس لمحور “أورو-عربي” جديد يسعى لإيجاد حلول عادلة للصراعات الإقليمية، وهو ما جعل من إسبانيا شريكًا موثوقًا في نظر العديد من الدول العربية.
رغم أن الخطوات الإسبانية لن تغيّر وحدها مسار الصراع في غزة، إلا أنها نجحت في إعادة إحياء النقاش الأوروبي حول العدالة والمساءلة في النزاع الفلسطيني–الإسرائيلي، وأظهرت أن هناك أصواتًا غربية مستعدة للوقوف إلى جانب الحق الفلسطيني ولو رمزيًا. ويبقى التحدي أمام مدريد في السنوات المقبلة هو الحفاظ على هذا النهج رغم الضغوط السياسية الداخلية والتوترات مع الحلفاء الغربيين، واستثمار زخمها الدبلوماسي لقيادة مبادرات أوروبية–متوسطية جديدة.
الخنادق




