سفير جديد برتبة «مبعوث خاص»: تركيا تحصّن نفوذها

سفير جديد برتبة «مبعوث خاص»: تركيا تحصّن نفوذها
تعيّن أنقرة نائب وزير خارجيتها نوح يلماز سفيراً في دمشق لضمان نفوذها في سوريا، وتثبيت حضورها السياسي والعسكري في مواجهة خصومها الإقليميين.
في خطوة تهدف إلى ضمان النفوذ في الملف السوري، أعلنت أنقرة، تعيين نائب وزير خارجيتها، نوح يلماز، سفيراً في دمشق، خلفاً للقائم بالأعمال برهان كور أوغلو، الذي كان قد تمّ تعيينه عقب سقوط نظام بشار الأسد، نهاية العام الماضي. وتأتي هذه الخطوة في إطار سلسلة تغييرات إدارية تشهدها الخارجية التركية، وهي تعكس توجّهاً جدّياً لدى تركيا، لتثبيت موطئ قدمها في عمق جارتها الجنوبية (سوريا)، على وقع صراع متعدّد الأطراف على النفوذ هناك، تؤدّي فيه إسرائيل دوراً وازناً.
ويعدّ يلماز، الذي يترأّس أيضاً «اللجنة التقنية التنسيقية» – الذراع التنفيذية لـ«المجلس الاستراتيجي الأعلى» المعني بالملف السوري -، أحد أبرز المسؤولين الأتراك الذين أشرفوا على هندسة هذا الملف في أثناء السنوات الماضية؛ إذ أدّى الرجل، الذي أمضى سنوات عديدة من حياته في جهاز الاستخبارات التركي، دوراً كبيراً في إعادة صياغة السياسة التركية تجاه سوريا. كما أنه يعدّ أحد مخطّطي إسقاط النظام السابق، الأمر الذي يمنحه سطوة كبيرة في ظلّ العلاقات المتينة التي تربطه بالسلطات الانتقالية الحالية، منذ كانت الأخيرة تتحكّم في إدلب (هيئة تحرير الشام).
الإعلان عن تعيين يلماز، وإن بدا مفاجئاً من حيث كسر الهرمية الإدارية في وزارة الخارجية (نقل نائب وزير إلى منصب سفير)، إلا أنه يشير بشكل مباشر إلى رغبة تركيا الجارفة في تشديد قبضتها على الملف السوري، وفرض مقاربتها في ظلّ تنامي أدوار لاعبين إقليميين فيه، على رأسهم إسرائيل.
ويأتي ذلك في ظلّ ما باتت تتمتّع به تركيا، من نفوذ غير مسبوق في هذا الملف، بتزكية من الولايات المتحدة، التي تحاول من جهتها خلق توازن في سوريا، عبر مبعوثها الخاص إلى هناك، توماس برّاك، الذي يشغل منصب سفير بلاده في تركيا أيضاً، ومن المتوقّع البتّ في تمديد مهمّته في أثناء الأيام المقبلة، بعد انتهاء المدّة التي حدّدها قرار تعيينه مبعوثاً للشأن السوري.
وعلى هذه الخلفية، لا يمكن اعتبار تعيين يلماز، بعد نحو 13 عاماً على تعيين آخر سفير لتركيا في سوريا (عمر أونهون)، مجرّد خطوة دبلوماسية روتينية، وإنّما هو أقرب إلى اختيار «مبعوث خاص» يعرف تماماً خبايا الملف السوري وتعقيداته، ويتمتّع بحضور كبير فيه على المستويين السياسي والعسكري، نظراً إلى علاقاته الوثيقة مع قادة الفصائل التي شكّلت الجيش السوري الناشئ، بما فيها «الجيش الوطني» الذي لا يزال يتلقّى رواتبه من أنقرة، ويحتفظ باستقلاليّته وينتشر بشكل أساسي على خطوط التّماس مع مناطق سيطرة «قوات سوريا الديموقراطية» (قسد).
لن تكون مهمّة يلماز سهلة، غير أنه من المؤكّد أنه سيكون لاعباً مهمّاً في الساحة السورية
وتشكّل هذه الأخيرة، إلى جانب إسرائيل، الملفَّين الأكثر حساسية بالنسبة إلى تركيا في سوريا، بعد أن فرضت تل أبيب على أنقرة، خطوط نفوذ تحصرها عسكرياً في الشمال، وتمنع تمدّدها إلى وسط البلاد، علماً أنّ تركيا، كانت قد حاولت إنشاء قاعدة عسكرية في ريف حمص، قبل أن تتعرّض إلى قصف إسرائيلي، في نيسان الماضي.
في المقابل، يشهد ملف «قسد»، حال استعصاء متفاقمة، جرّاء تعمّق الخلافات بين الأكراد وبين السلطة الانتقالية المركزية حول اتفاق 10 آذار، الموقّع بين الرئيس السوري الانتقالي، أحمد الشرع، وقائد «قسد»، مظلوم عبدي. وفي هذا السياق، يمكن فهم استعجال أنقرة تعيين يلماز، قبل نهاية العام الحالي، على ضوء الموعد المحدّد للانتهاء من تطبيق اتفاق 10 آذار، وذلك في سياق الضغوط المتواصلة التي تمارسها أنقرة على «قسد»؛ سواء على المستوى السياسي والإعلامي عبر التهديد المستمرّ بشنّ عملية عسكرية، أو على المستوى العسكري عبر تحريك جبهات القتال، على غرار الاشتباكات الأخيرة التي شهدتها بلدتا محكان والكشمة، في ريف دير الزور الشرقي أول أمس.
وانضمّت هذه الجبهة إلى جبهات سابقة في ريف حلب ومحيط سدّ تشرين، بعد أن تمكّنت الولايات المتحدة، بشكل مؤقّت، من استثناء حيَّي الشيخ مقصود والأشرفية في حلب، واللذين يسيطر عليهما الأكراد، من موجة العنف المستمرّة، إثر الاشتباكات العنيفة التي عاشها الحيّان، في السابع من شهر تشرين الأول الحالي.
كما يأتي تعيين الرجل، الذي يملك أيضاً، خبرة إعلامية واقتصادية عبر إدراته مكتب مؤسسة الأبحاث السياسية والاقتصادية والاجتماعية (SETA)، في واشنطن بين عامي 2008 و2011، ومشاركته في برامج تدريبية ودورات متقدّمة في مؤسسات دولية منها كلّية الدفاع التابعة لـ«حلف شمال الأطلسي» (الناتو)، في وقت تشهد فيه سوريا فكّاً متواصلاً للعزلة الدولية، بقيادة الولايات المتحدة، التي تحاول الترويج لنجاح ما في إدارة الملف السوري، بدءاً برفع العقوبات المفروضة على هذا البلد، وليس انتهاءً بمحاولة شطب أسماء مسؤولين في الإدارة الانتقالية، على رأسهم الشرع نفسه ووزير داخليته أنس خطاب، من قائمة العقوبات الأممية، عن طريق مسوّدة قرار تتمّ مناقشتها في أروقة مجلس الأمن. ومن شأن هذا الأمر، إن حصل، أن يمنح تركيا مساحة أوسع لاستثمار الملف السوري على المستوى الاقتصادي، بعدما نجحت فعلياً في الحصول على «حصّة الأسد» فيه، وبدأت تتوسّع عن طريق شركاتها في الأراضي السورية.
وعلى أيّ حال، لن تكون مهمّة يلماز، البالغ من العمر 49 عاماً، والذي يحمل شهادة دكتوراه في علم الاجتماع من جامعة «يلدريم بيازيد»، ويتقن اللغتين العربية والإنكليزية إلى جانب لغته الأم، ويعرف تماماً طبيعة السلطات الانتقالية الحالية، ويدرك التغييرات التي طرأت على تركيبتها وآلية تفكيرها، في ظلّ توسّع علاقتها مع قوى إقليمية ودولية (من بينها السعودية والولايات المتحدة وحتى روسيا)، سهلة. غير أنه من المؤكّد أنه سيكون لاعباً مهمّاً في الساحة السورية، وسيسعى جاهداً إلى إتمام مهمّته في إعادة هندستها بالشكل الذي تحاول أنقرة الوصول إليه.
الاخبار اللبنانية





