خلاف أميركا – إسرائيل يتشعّب: لا رؤية موحّدة للمرحلة الثانية

خلاف أميركا – إسرائيل يتشعّب: لا رؤية موحّدة للمرحلة الثانية
يتعمّق الخلاف الأميركي – الإسرائيلي حول «المرحلة الثانية» في قطاع غزة، بين رؤية واشنطن الإقليمية ومسعى تل أبيب لفرض أمنها دون التزامات سياسية.
لم يَعُد التباين بين مقاربتَي إسرائيل والولايات المتحدة للمرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، مجرّد خلاف تكتيكي، بل أصبح خلافاً حول جوهر الرؤية وآليات تنفيذها. فبينما تسعى واشنطن لتحويل الاتفاق إلى معبر لترتيب إقليمي يعزّز التطبيع ويوسّع دائرة الاستقرار، وفق ما تقتضيه مصلحتها، تتمسّك إسرائيل بجعل أيّ تقدُّم سياسي أو أمني في القطاع، مشروطاً بما يحقّقه لها من ضمانات أمنية، من دون أيّ التزامات من جانبها، من شأنها أن تحدّ من سيطرتها وقدرتها على المبادرة.
على أن هذا التباين لا يَظهر كصراع علني، وإنْ كان يشمل كلّ ما هو متّصل بالمرحلة الثانية من الاتفاق: توقيت نزع سلاح حركة «حماس» وآلياته، تشكيل الحكم البديل وماهيته؛ صلاحيات القوّة الدولية وهوية المشاركين فيها، وكذلك شروط إطلاق مشاريع إعادة الإعمار والجهات الدولية التي ستنخرط فيها.
من وجهة النظر الأميركية، فإن الاستقرار الأمني الذي تعتبره مقدّمة لِما سيليه إقليميّاً، لا يتحقّق فحسب من خلال القوّة وقمع الآخر، بل أيضاً عبر بيئة مدنية وترتيبات حُكم وإعادة إعمار موجَّه؛ وهي عوامل من شأنها أن تقلّل من احتمالات العودة إلى العنف والقتال، شرط أن تحفظ مصالح اللاعبين الإقليميين، المُفترض انخراطهم في الترتيب الإقليمي الأوسع.
ولهذا، تشدّد واشنطن على تسريع الخطوات السياسية والاقتصادية بدعم إقليمي، فيما تحدّد هامش المناورة الإسرائيلية، لمنع العودة إلى التصعيد الأمني. من جهتها، تخشى إسرائيل أن يؤدّي التسرّع في تنفيذ الرؤية الأميركية، إلى ترسيخ واقع يسمح لـ«حماس» أو غيرها من الفصائل، بالبقاء تحت غطاء مدني أو دولي، وتالياً تهديد الأمن الإسرائيلي على المديَين المتوسّط والبعيد.
ولعلّ التحدّي الماثل أمام إسرائيل الدولة، هو في كيفية المضيّ قُدماً في مسار الحلّ والمرحلة الثانية، من دون الاصطدم بالحليف الأميركي، أو تحوُّل الواقع والميدان في غزة إلى ترتيب محصّن بمظلّة إقليمية ودولية تتقدّمه أميركا، ما سيؤدّي إلى تعافي أعدائها من دون القدرة الفعلية على صدّ هذا التعافي.
وعلى رغم تباين الرؤى، قد يكون الرهان المشترك هو على قدرة الطرَفين على إدارة الخلافات بينهما، من دون أن تتحوّل إلى أزمة. فأميركا تحتاج إلى إسرائيل لإنجاح رؤيتها الإقليمية، وتل أبيب تحتاج إلى غطاء أميركي لضمان أمنها، ووجودها معاً، مع التشديد على أن الاختلاف بين ترامب ونتنياهو ليس على جوهر الأهداف، إذ إنهما يسعيان وراءها نفسها، أي ضمان أمن إسرائيل وتفكيك «حماس»، بل على النهج والرؤية الاستراتيجية الأوسع، وتحديداً لِما بعد الحرب في قطاع غزة.
ترى واشنطن أنه يمكن اعتماد التدرّج في نزع السلاح، في موازاة انسحاب الجيش الإسرائيلي
وفي إطار الخلافات، يمكن تسليط الضوء على الآتي:
* لا يرى ترامب، قطاع غزة منعزلاً عن السياقات الإقليمية الأوسع؛ وهو يعمل، من خلال القطاع، على إعادة تشكيل بنية الشرق الأوسط عبر توسيع «اتفاقات أبراهام»، ودمج إسرائيل في محور تابع تقوده هي نفسها إلى جانب السعودية والإمارات، على أن يصار إلى ربط هذا المسار بتقدُّم تدريجي نحو حلٍّ سياسي للقضية الفلسطينية. في المقابل، يريد نتنياهو التركيز فقط على الأهداف الأمنية المباشرة، من مثل نزع سلاح «حماس» وتفكيكها، ومنع العودة إلى واقع ما قبل السابع من أكتوبر، فيما يفتقر إلى رؤية واضحة أو حتى رغبة في الانخراط في مسار سياسي وأمني إقليمي على حساب هذه الرؤية الضيّقة، التي من شأنها أن تهدّد مصالحه السياسية والشخصيّة.
* يرى الرئيس الأميركي أن وجود كيان فلسطيني مدني في غزة، تقوده السلطة، بعد خضوعها لـ«إصلاحات»، يشكّل عنصراً حيويّاً لتقديم بديل شرعي لحكم «حماس»، وكذلك لتوفير غطاء عربي للمسار الجديد، يخدم الرؤية الأوسع إقليميّاً. أمّا رئيس الحكومة الإسرائيلية، فيرفض هذا الخيار، ليس لاعتبارات أمنية فحسب، بل لأن أيّ تعاون مع السلطة الفلسطينية، حتى بعد «إصلاحها»، قد يُستخدم ضدّه داخليّاً كدليل على «الخيانة»، من قِبَل قاعدته اليمينية.
* يشدّد ترامب على ضرورة أن يكون الترتيب اللاحق في غزة، مبنيّاً على شبكة دعم وانخراط إقليميَّيْن ودوليَّيْن، يشمل مصر وقطر وتركيا، لدفع هذه الأطراف إلى أن تكون جزءاً لا يتجزّأ من الحلّ، لضمانه واستمراره. لكنّ نتنياهو يميل إلى الاعتماد على بنية ثنائية من تل أبيب وواشنطن فقط، ويرفض آليات جماعية إقليمية ودولية، قد تُستخدم لاحقاً لفرض تنازلات على إسرائيل تحت عنوان «الإجماع الدولي».
* تضغط الولايات المتحدة لتسريع نشر قوة متعدّدة الجنسيات في غزة، حتى قبل الانتهاء من الاتفاق على تفاصيل تشكيلها أو صلاحياتها، بما يشمل دولاً تُعدّ محلّ قلق اسرائيلي، من مثل تركيا. في المقابل، تصرّ إسرائيل على أن يكون لها حقّ الفيتو على هوية مكوّنات القوّة وصلاحياتها ونطاق عملها، وترى أن أيّ وجود عسكري وأمني غير خاضع لرقابتها، قد يتحوّل لاحقاً إلى ثغرة من شأنها أن تقوّض سيطرتها الميدانية.
ومنعاً أيضاً للثغرات الأمنية وتمكين «حماس» من إعادة ترميم قدراتها، تربط إسرائيل أيّ دعم مالي واقتصادي، بإزالة التهديد العسكري بالكامل، وتشترط رقابة أمنية مباشرة ومشدّدة على مستلزمات إعادة الإعمار، لتمنع «حماس» من الاستفادة منها، ما يعني ضرورة ترحيل الإعمار إلى مرحلة لاحقة على نزع السلاح. أمّا أميركا فتسعى إلى إطلاق مشاريع إعمار واسعة النطاق، بتمويل من تحالف غربي – عربي، على اعتبار أن الاستقرار ومنع التصعيد يجب أن يُقرنا بدعم اقتصادي لغزة، أي إن نزع السلاح غير مرتبط بالإعمار من ناحية الحليف الأميركي.
أيضاً، في الموضوع الأكثر حساسية لدى إسرائيل، وهو نزع سلاح «حماس» والفصائل الفلسطينية في غزة، يوجد خلاف متشعّب، إذ ترى واشنطن أنه يمكن اعتماد التدرّج في نزع السلاح، في موازاة انسحاب الجيش الإسرائيلي. في المقابل، ترفض إسرائيل هذا الربط بالمطلق، وتشترط تفكيك «حماس» وقدراتها بالكامل، من دون ربط ذلك بتموضع قواتها في قطاع غزة.




