أزمة الحكم في فلسطين ومتطلبات الإصلاح: مرحلة انتقالية لاستعادة التوازن بين السلطات وترميم الشرعية الوطنية

أزمة الحكم في فلسطين ومتطلبات الإصلاح: مرحلة انتقالية لاستعادة التوازن بين السلطات وترميم الشرعية الوطنية
بقلم رئيس التحرير
تواجه فلسطين لحظة مفصلية تُختبر خلالها قدرة النظام السياسي على الصمود أمام تعقيدات داخلية متفاقمة وضغوط خارجية متشابكة. ومع استمرار الانقسام، وتعطّل العملية الانتخابية، واستحواذ السلطة التنفيذية على مهام التشريع والرقابة في غياب المجلس التشريعي، باتت أزمة الحكم تتجاوز البُعد الإداري إلى مستوى تهديد البنية الدستورية نفسها، وتآكل الشرعية السياسية، وانكماش قدرة المؤسسات على تمثيل الإرادة الوطنية والدفاع عن القرار السيادي.
هذه الأزمة ليست حدثاً طارئاً، بل نتاج تراكمي نضج عبر سنوات من تعطّل الحياة الديمقراطية، وإضعاف مبدأ الفصل بين السلطات، وتداخل الصلاحيات، وتراجع دور المؤسسات الرقابية، ما أنتج فراغاً دستورياً تمّ ملؤه عبر قرارات بقانون تزايدت بوتيرة غير مسبوقة. وهو ما أفضى إلى حالة قلق شعبي وسياسي عميق من استمرار هذا الوضع بلا أفق إصلاحي واضح.
أولاً: بنية الأزمة – حين يتعطّل التشريع وتتمدد السلطة التنفيذية
إن غياب المجلس التشريعي المنتخب منذ عام 2007 ترك السلطة التنفيذية في موقع المشرِّع الوحيد، في تناقض مباشر مع نصوص القانون الأساسي وروحه. ومع تراكم القرارات بقانون، تحوّل الاستثناء إلى قاعدة، وأصبحت السلطة التنفيذية صاحبة اليد العليا في ضبط مفاصل الحكم وصنع السياسات وإدارة الموارد، في حين تراجع دور القضاء وتقلّصت مساحة المساءلة والمحاسبة.
هذا الوضع لم يعد مجرد خلل وظيفي، بل أصبح تهديداً للبنية الدستورية التي تستند إليها الشرعية الوطنية. فالدول لا تُبنى بسلطة واحدة مطلقة الصلاحيات، بل بتوازن بين السلطات الثلاث: التشريعية، التنفيذية، والقضائية.
ثانياً: الضرورة الوطنية لاستعادة استقلال السلطات الثلاث
ليس مطلوباً مجرد “إصلاح إداري”، بل إعادة بناء المنظومة السياسية على أساس دستوري سليم، يبدأ بتحصين القضاء من التدخلات، وتحرير التشريع من هيمنة السلطة التنفيذية، وتمكين الرقابة البرلمانية.
السلطة القضائية تحتاج إلى إعادة تموضع مستقل يضمن لها الهيبة والقدرة على فرض سيادة القانون.
السلطة التشريعية يجب أن تُستعاد بشكل مرحلي، لتكون ركيزة الإصلاح ومظلة التشريع.
السلطة التنفيذية يجب أن تعود إلى حدودها الدستورية، وأن تُخضع قراراتها لرقابة مؤسسية.
إن استمرار الوضع الحالي يعني بقاء الحكم في دائرة ضيقة، بما يحجب الشفافية ويُضعف الثقة العامة ويمنح القوى الخارجية مساحة أكبر للضغط والاشتراط.
ثالثاً: تشكيل مجلس تشريعي انتقالي – ضرورة وليست خياراً
في ظل استحالة الذهاب الفوري إلى انتخابات عامة، وفي ظل الانقسام وغياب البيئة السياسية والقانونية السليمة، تصبح الدعوة إلى تشكيل مجلس تشريعي انتقالي خطوة سياسية ودستورية ملحّة.
هذا المجلس يجب أن يتكوّن من:
شخصيات وطنية مستقلة، ممثلين عن الفصائل، خبراء قانونيين وأكاديميين، ممثلين عن النقابات والاتحادات والقطاع المدني.
ويوكل إليه:
- مراجعة القرارات بقانون وتعديل ما يلزم.
- صياغة خطة إصلاح وطنية شاملة.
- الإشراف على التحضير للانتخابات العامة.
- ضبط العلاقة بين السلطات خلال المرحلة الانتقالية.
إن وجود مجلس انتقالي يملأ الفراغ التشريعي هو الضمانة الوحيدة لتصويب مسار الحكم، ومنع استمرار تغوّل السلطة التنفيذية، ووضع حد للحالة الاستثنائية المفتوحة.
رابعاً: مرحلة انتقالية بسقف زمني واضح – نحو استعادة الشرعية
تحتاج فلسطين إلى مرحلة انتقالية تمتد من 12 إلى 18 شهراً، تُدار وفق خطة دقيقة، وتشمل:
- إصدار مرسوم بتشكيل المجلس التشريعي الانتقالي.
- إعادة تعريف صلاحيات السلطة التنفيذية ضمن الحدود التي رسمها القانون الأساسي.
- تطوير نظام قضائي مستقل يعيد الثقة العامة بالمؤسسة القضائية.
- إطلاق حوار وطني شامل لإنهاء الانقسام وتوحيد المرجعية الدستورية.
- تحديد موعد الانتخابات العامة بعد إنجاز البنية التشريعية والإدارية المطلوبة.
إن الإصرار على القفز مباشرة إلى الانتخابات يكرر أخطاء الماضي، فانتخابات بدون إصلاحات حقيقية ستنتج مؤسسات ضعيفة عاجزة عن الصمود أمام الضغوط الإقليمية والدولية.
خامساً: استعادة القرار السيادي في مواجهة الضغوط الخارجية
إن غياب المؤسسات المنتخبة وضعف الشرعية البرلمانية أتاح مجالاً واسعاً لتدخلات واشتراطات الدول المانحة والقوى الإقليمية، ما جعل القرار الفلسطيني على تماس مباشر مع إرادات خارجية تحاول فرض أولوياتها.
إن بناء مؤسسات قوية، مستقلة، ومتوازنة هو السلاح الأساسي لتحصين القرار الوطني، وحماية المشروع الفلسطيني من الابتزاز السياسي والاقتصادي، ووقف استنزاف الإرادة الوطنية.
خاتمة: الإصلاح ليس ترفاً بل شرط وجود
لقد وصلت أزمة الحكم في فلسطين إلى مستوى لا يمكن معه الاستمرار في الواقع الراهن. فإعادة بناء النظام السياسي ليست مهمة سياسية فحسب، بل واجب وطني ودستوري لضمان بقاء المشروع الوطني نفسه. إن تشكيل مجلس تشريعي انتقالي، والبدء بمرحلة إصلاح واضحة بسقف زمني محدد، يمثلان الطريق الأكثر واقعية وقوة للخروج من المأزق، واستعادة التوازن بين السلطات، وترميم الشرعية، وتحصين القرار الفلسطيني أمام محاولات التأثير والاحتواء.
فلسطين بحاجة اليوم إلى إرادة إصلاح حقيقية تعيد الاعتبار للمؤسسات، وتستجيب لتطلعات الشعب، وتواجه التحديات الاستراتيجية التي تفرضها المرحلة، من الاحتلال وتوسّع الاستيطان، إلى التحولات الإقليمية والدولية التي تضغط على جوهر القرار الفلسطيني وسيادته.
.



