فلسطين

شهادات لـ«القدس العربي» من نساء غزة: حين تصير الجدّة أمّا ثانية

شهادات لـ«القدس العربي» من نساء غزة: حين تصير الجدّة أمّا ثانية

وردة الشنطي

غزة –  مع شروق الشمس في مخيمات النزوح أو بين جدران بيوت مهترئة في غزة تبدأ الجدّات يومهنّ الطويل المليء بالتحديات. يستيقظن مبكرًا ليحضّرن الإفطار البسيط، ويرتّبن أماكن النوم، ويهيّئن كل ما يلزم ليشعر أحفادهنّ بالأمان والدفء وسط الظروف القاسية. يحملن بين أيديهن حبًا لا ينتهي وصبرًا لا يكلّ، ويعلّمن أحفادهن الصبر والشجاعة، ويملأن حياتهم بالحنان والطمأنينة. وبين وجبة متواضعة وحكاية عن الماضي تتحول كل لحظة يومية إلى درس في الحياة، وتصبح الخيمة أو البيت المتهالك ملاذًا صغيرًا يشعر فيه الطفل بالحب والأمان رغم الحرب والفقدان. هنا تتجسد قوة القلب البشري وتظهر مدى تضحيات الجدّات من أجل أحفادهنّ.

فاطمة جابر… وحنان

بعد استشهاد ابني خالد في العدوان الأخير على غزة، أصبحنا نعيش أنا وحفيدتي حنان في خيمة صغيرة داخل مخيم للنازحين. أصوات الانفجارات والرصاص لا تهدأ أحيانًا، لكنني تعلمت أن أخلق لحنان مساحة أمان وسط الخراب، وأن أجعل حياتنا اليومية تحمل لمسات من الدفء والحب. يبدأ صباحنا عند شروق الشمس، أخرج رأسي من الخيمة لأتأكد أن الجو هادئ، ثم أدعو حنان لتناول الإفطار البسيط، خبز قليل مع الزعتر أو الزيت، ونحاول أن نبدأ يومنا بهدوء وصبر رغم كل الفوضى حولنا. بعد الإفطار نجلس على الأرض المبطنة بأغطية بسيطة، نرتّب أغطية النوم وأواني المطبخ، وأروي لها عن والدها، عن ابتساماته ولعبه معها، وعن اللحظات الصغيرة التي جمعته بنا، لكي تشعر أن ذكراه حيّة في حياتها دائمًا. وخلال النهار نخرج أحيانًا إلى ساحة المخيم. أجمع بعض الحطب والماء بينما تلعب حنان مع الأطفال الآخرين، وأحاول أن أرى ابتسامتها ولو للحظات. ففي هذه اللحظات الصغيرة نتعلم معًا الصبر، وكيف نساعد بعضنا في مهام الحياة اليومية، من جلب الماء إلى تنظيف زوايا الخيمة وحتى الطهي البسيط على الموقد الصغير.
ومع غروب الشمس نجلس على أغطية الخيمة لتناول العشاء البسيط، ونتحدث عن الغد والأمل، وعن الاستمرار رغم الفقد والحرب. قبل النوم تجلس حنان لترسم مشاعرها على الورق، وأحملها بين ذراعي وأطمئنها أن الحب الذي جمعها بوالدها لا ينتهي، وأننا معًا قادرون على مواجهة كل الصعوبات.

كل يوم هنا يعلّمنا الصبر والشجاعة، ويذكّرنا أن الحب الذي يجمع بين جدة وحفيدتها أقوى من الحرب ومن كل فقد. ورغم قسوة الظروف نحاول أن نجد في كل لحظة لمحة من الأمان والدفء، ونؤكد أننا صامدتان، نحب ونحلم ونستمّر رغم كل شيء.

نعيمة أبو سيف… وزين ويزن

بعد استشهاد ابني في الاجتياح البري لمخيم البريج، أصبحت مسؤولة عن رعاية حفيديّ زين ويزن، وهما يعانيان من إعاقة ذهنية. نعيش في بيت مقصوف ومتهالك، سقفه متصدع وجدرانه هشّة، وأرضيته غير مستقرة، ومع ذلك أحاول أن أجعل هذا البيت مكانًا يشعر فيه الطفلان بالأمان والحب.
يبدأ يومنا مبكرًا. أعد لهما الإفطار البسيط، غالبًا خبزًا قليلًا مع الفول، ثم نرتب البيت بحذر شديد. أراقب كل خطوة يخطوانها، لأن أي حركة خاطئة قد تعرّضهما للأذى. أحاول إشغالهما باللعب والأنشطة البسيطة، وأحيانًا نخرج قليلًا إلى ساحة البيت أو الشارع القريب. أرافقهما بعين لا تغفل، فأنا أعلم أن أي خطر مهما كان صغيرًا قد يهددهما.
زين ويزن يحتاجان إلى رعاية دائمة. أساعدهما في الاستحمام، وارتداء الملابس، وترتيب احتياجاتهما المتواضعة. أحاول أن أجعل من كل لحظة فرصة لتعلم شيء جديد، أو منحهما بعض السعادة على الأقل. أروي لهما قصصًا عن والدهما، عن ابتساماته وذكرياته معنا، لكي يشعرا أن حبه موجود بيننا رغم غيابه.
ورغم التعب وقلة الموارد والبيت المتهالك، أحاول أن أخفي عنهما خوفي وقلقي، وأظهر لهما دومًا أن حياتنا مستمرة، وأننا قادرون على مواجهة كل ما يأتي. وعند المساء نجلس على الأرض لتناول العشاء البسيط، ثم أحاول تهدئتهما قبل النوم. أحكي لهما قصصًا قصيرة، وأحملهما بين ذراعي حتى يناما بطمأنينة.
هكذا تمر أيامنا بين التحديات والصعوبات. العناية بطفلين من ذوي الإعاقة في بيت مقصوف مهمة صعبة، لكنها مغموسة بالحب والصبر. أحاول أن أمنحهما حياة مستقرة قدر الإمكان وسط عالم مليء بالخطر، لأن حبي لهما أكبر من كل ما يحيط بنا.
أعيش مع حفيدي ياسين، عشرة أعوام، في خيمة صغيرة في مدينة غزة. خيمتنا ضيقة ومهجورة، قماشها قديم وأرضيتها مغطاة ببطانيات رقيقة لا تحمينا من حرارة الصيف ولا من برد الشتاء والمطر. كل يوم يمثل تحديًا جديدًا لنا.
يبدأ صباحنا مع شروق الشمس. أخرج لجلب الماء من نقطة توزيع بعيدة، أقف في طابور طويل وأنتظر بصبر، بينما يبدأ ياسين يومه بتحضير صناديق الجرجير والبقدونس التي أحضرها له من التاجر القريب خلف الخيمة. أحمله في قلبي أكثر من أي شيء، وأراه يحمل الصناديق الثقيلة في يده الصغيرة أو على رأسه، ثم يهرول إلى السوق ليبيعها، محاولًا جذب الزبائن في سوق مكتظ، وأحيانًا لا يبيع كل ما لديه بسبب كثرة الباعة.
وأشعر دائمًا بالقلق عليه أثناء تنقله، فهو صغير ولا يعرف المخاطر حوله. أحيانًا تتسخ صناديقه أو يصيبها البلل بسبب الطين والمطر، وهذا يقلل من ربحه ويزيد صعوبة عمله. ومع ذلك أبتسم له وأخبره أنني فخورة بكل ما يبذله من جهد.
وعند عودتنا إلى الخيمة نواجه تحديات أخرى: ترتيب الخيمة بعد الرياح أو المطر، إعداد الطعام البسيط، والقلق المستمر من نقص الماء والغذاء. أحاول أن أخفي عنه تعبي وخوفي، لكن قلبي لا يهدأ إلا حين أراه بجانبي آمنًا.
وعند المساء نجلس على أرضية الخيمة لتناول العشاء البسيط، ثم يجلس ياسين ليكتب واجباته المدرسية على هاتفي. أحتضنه وأخبره أن ما يقوم به من بيع الخضار ومساعدتي يجعلني فخورة به، وأننا سنواجه الصعوبات معًا مهما تعاظمت.
هكذا تمضي أيامنا بين الصبر والعمل المتواصل: بيع الخضار، حماية الخيمة، مواجهة نقص الطعام والماء، والعيش تحت تهديد الحرب. لكن الحب الذي يجمع بين جدة وحفيدها يبقى أقوى من كل شيء، وبه نستمر في الصمود رغم الظروف القاسية.

صخور راسخة

ورغم كل الصعوبات والمعاناة تبقى الجدّات صخورًا راسخة في حياة أحفادهن. بتضحياتهن اليومية وحبهن الكبير يصنعن للأطفال عالمًا صغيرًا من الأمان والدفء وسط ظروف قاسية. رعايتهن ليست واجبًا فحسب، بل رسالة حب لا تنتهي، تعلّم الأطفال معنى الصبر والشجاعة. وتبقى ذكريات الجدّات وحضورهن الدافئ محفورة في قلوب أحفادهن، ليواجهوا بها تحديات الحياة في المستقبل.

«القدس العربي»:

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب