بلاد الشام قبل سايكس–بيكو: وحدة جغرافية صنعت هوية سياسية وإقليمية واحدة
تقرير تحليلي–سياسي

تقرير تحليلي–سياسي
بلاد الشام قبل سايكس–بيكو: وحدة جغرافية صنعت هوية سياسية وإقليمية واحدة
إعداد وتقرير: المحامي علي أبو حبلة
تشكل بلاد الشام قبل تقسيمات سايكس–بيكو عام 1916 نموذجًا متكاملاً لوحدة جغرافية – سياسية – حضارية، ظلّت عبر آلاف السنين إطارًا طبيعيًا تتشكّل داخله الدول والإمبراطوريات دون أن يفقد الإقليم هويته المشتركة. فالجغرافيا الموحدة لهذه المنطقة، الممتدة من جبال طوروس شمالًا إلى سيناء جنوبًا، ومن شواطئ المتوسط غربًا إلى بادية الشام شرقًا، لم تكن مجرد حدود طبيعية، بل كانت أساسًا لنظام إقليمي كامل، يربط بين المدن والموانئ والطرق التجارية والمراكز الدينية.
في هذا التقرير التحليلي، نعرض أعمق أبعاد وحدة بلاد الشام قبل التقسيمات الاستعمارية، وكيف شكّلت الجغرافيا والتاريخ معًا وحدة سياسية واجتماعية حاولت القوى الدولية تفكيكها لاحقًا.
أولًا: البعد الجيوسياسي لوحدة بلاد الشام
- الإقليم الذي يربط بين القوى الكبرى
كانت بلاد الشام عبر التاريخ نقطة توازن بين الإمبراطوريات الكبرى: الفراعنة، الآشوريين، الفرس، الإغريق، الرومان، العرب المسلمين، العثمانيين، ثم القوى الأوروبية.
وحدتها الجغرافية جعلت السيطرة عليها شرطًا للهيمنة على شرق المتوسط والطرق المؤدية إلى آسيا وإفريقيا.
وبالتالي، فإن أي قوة أرادت التأثير في الشرق الأوسط جعلت بلاد الشام محورًا لسياساتها.
- وحدة المصالح الإقليمية
قبل سايكس–بيكو، كانت المنطقة تعمل كفضاء اقتصادي وسياسي واحد:
التجارة بين مدن الساحل (بيروت، حيفا، يافا، طرابلس، اللاذقية) والداخل (دمشق، القدس، نابلس، درعا، حلب) كانت مفتوحة ومترابطة.
الطرق بين القاهرة–غزة–دمشق–حلب–الموصل شكلت شريانًا للتجارة البرية.
الموانئ الساحلية كانت بوابات للداخل الشامي، وليس لمنطقة جغرافية مقطّعة كما أصبحت لاحقًا.
هذا الاندماج العملي خلق منظومة سياسية واقعية رغم تعدد الحكام.
ثانيًا: وحدة الهوية السياسية والاجتماعية
- المجال الشامي كوحدة اجتماعية
أنتج تداخل المدن والقرى والبادية في بلاد الشام نسيجًا اجتماعيًا واحدًا؛
فسكان فلسطين ولبنان وسورية والأردن تفاعلوا تجاريًا وثقافيًا ضمن فضاء مشترك، حتى باتت المدن الكبرى ذات امتداد اجتماعي يتجاوز حدودها:
دمشق كانت العاصمة الإدارية والتجارية للمشرق كله.
القدس مركز ديني وسياسي جامع.
نابلس وحلب مراكز اقتصادية وصناعية كبرى.
وحدة الهوية هذه كانت أقوى من أي محاولات لاحقة للفصل بين شعوب المنطقة.
- البنية السياسية ما قبل التقسيم
خلال العهد العثماني، كانت بلاد الشام مؤلفة من ولايات مترابطة سياسيًا:
ولاية سورية
ولاية بيروت
ولاية القدس
ولاية حلب
وكانت هذه الولايات تعمل كوحدات إدارية ضمن نظام واحد، ما سمح باستمرار التفاعل السياسي والاقتصادي.
ثالثًا: العامل الجغرافي كقاعدة للنظام الإقليمي
- شواطئ موحدة ومنافذ استراتيجية
امتداد السواحل من اللاذقية حتى غزة خلق فضاءً بحريًا واحدًا يسمح بحركة بحرية وتجارية متكاملة.
الساحل كان مصدر قوة للداخل، والموانئ كانت جزءًا من منظومة اقتصادية–سياسية واحدة لا يمكن فصلها.
- الموارد الطبيعية المشتركة
المياه، الزراعة، الغابات، المراعي، والمصادر المعدنية خلقت شبكة مصالح اقتصادية مشتركة، أبرزها:
نهر الأردن حيوي لفلسطين والأردن وسوريا.
أنهار العاصي واليرموك متشاركة بين الكيانات.
السهول الساحلية مصدر غذاء للمدن الداخلية.
هذه الموارد جعلت الإقليم يقوم على اقتصاد تكاملي وليس اقتصادًا مجزأ كما حدث بعد التقسيمات.
رابعًا: لماذا سعت القوى الاستعمارية لتفكيك بلاد الشام؟
- القضاء على أي قوة إقليمية موحدة
قوى الاستعمار – بريطانيا وفرنسا تحديدًا – أدركت أن وحدة بلاد الشام تمثل قوة إقليمية قادرة على التأثير في:
التجارة الدولية
مسار النفط المستقبلي
الأمن البحري في شرق المتوسط
الحركة القومية العربية الصاعدة
ولذلك منحت خطة سايكس–بيكو هدفًا أساسيًا: تفتيت هذا الإقليم إلى كيانات صغيرة يسهل التحكم بها.
- تسهيل تنفيذ المشروع الصهيوني في فلسطين
التقسيمات الاستعمارية لم تكن مجرد حدود سياسية، بل كانت خطوة تمهيدية لإقامة كيان استعماري استيطاني في فلسطين.
فعزل فلسطين عن محيطها الطبيعي – اقتصادية وسياسيًا – كان جزءًا من خطة أكبر تهدف إلى منع تشكّل قوة مشرقيّة موحّدة قادرة على رفض المشروع الصهيوني.
خامسًا: تأثير وحدة بلاد الشام على مستقبل المنطقة اليوم
- التحدي الجيوسياسي
فهم وحدة بلاد الشام قبل سايكس–بيكو ضروري لقراءة:
التفاعلات بين سورية ولبنان والأردن وفلسطين.
أسباب استهداف المنطقة بالحروب والصراعات.
دوافع القوى الإقليمية والدولية للتدخل المستمر فيها.
- سؤال الهوية العربية–المشرقية
رغم مرور قرن على التقسيمات، فإن الوعي الشعبي في بلاد الشام ما زال يتحدث عن “المشرق الواحد”، لأن الروابط الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بقيت أقوى من الحدود السياسيّة الحديثة.
خلاصة تحليلية
وحدة بلاد الشام قبل سايكس–بيكو لم تكن مجرد واقع جغرافي، بل كانت منظومة سياسية وإقليمية واقتصادية متكاملة، شكّلت عبر التاريخ أساسًا لقوة المنطقة ونفوذها.
التقسيمات الاستعمارية هدفت إلى كسر هذا الفضاء الموحد وتحويله إلى كيانات مفككة يسهل التحكم بها، وتهيئة البيئة لمشاريع استعمارية جديدة.
اليوم، ومع تشابك مصالح دول المشرق وتداخل أزماتها، تبدو العودة إلى فهم طبيعة هذه الوحدة التاريخية ضرورة لفهم أسباب الصراعات الراهنة وإمكانية بناء نظام إقليمي جديد أكثر استقرارًا وعدالة.




