تنهيدة كرامة: صمود المواطن الفلسطيني في مواجهة أزمات متعددة
تنهيدة كرامة: صمود المواطن الفلسطيني في مواجهة أزمات متعددة
بقلم رئيس التحرير
مقدمة
في ظل الأزمات المتشابكة التي تعصف بالواقع الفلسطيني—سياسيًا، واجتماعيًا، واقتصاديًا—تكتسب عبارة “تنهيدة الكرامة” بعدًا رمزيًا وواقعيًا في الوقت نفسه. فهذه التنهيدة ليست مجرد زفرة أو تعبير عن ألم فردي، بل انعكاس حي لتجربة مجتمع كامل يرزح تحت وطأة التحديات المتفاقمة.
بين الاحتلال الذي يفرض قيودًا على الأرض والحركة، وسلطة تعاني أزمة ثقة وهامشية القرار، واقتصاد يواجه تبعات البطالة والفقر المزمن، يجد المواطن الفلسطيني نفسه أمام اختبار يومي للكرامة والهوية، يحاول فيه الحفاظ على صموده وسط عواصف من الإحباط.
التنهيدة هنا تمثل صوتًا صامتًا للمقاومة—صوت الاحتجاج على الظلم الاجتماعي، الهشاشة الاقتصادية، وغياب السياسات الوطنية الشاملة. إنها تعبير عن رفض الاستسلام، ورفض أن تتحول الحياة اليومية إلى سلسلة من الانكسارات المتراكمة.
البعد السياسي: الانقسام وتراجع المؤسسات
يعكس الواقع السياسي الفلسطيني مزيجًا من الانقسام الداخلي والتحديات الهيكلية التي تحد من قدرة المواطن على ممارسة حقوقه. الانقسام بين الضفة وغزة، وضعف الشرعية الشعبية والسياسية، يضعف القدرة على اتخاذ قرارات وطنية فعالة.
نتيجة ذلك، تتحول المؤسسات الرسمية إلى آليات إدارة يومية أكثر منها أدوات حماية سياسية أو أدوات استراتيجيّة لصون الكرامة. المواطن يواجه صعوبة في رؤية خارطة طريق واضحة، وهو ما يعمّق شعوره بالإحباط ويزيد من تنامي التذمر الشعبي.
إحصائية: وفق دراسة صادرة عن المركز الفلسطيني للإحصاء عام 2024، 62% من الفلسطينيين في الضفة وغزة يعتقدون أن الانقسام السياسي أثر سلبًا على قدرتهم على الحصول على خدمات أساسية وممارسة حقوقهم المدنية.
هذا الانقسام لا يقتصر على الأبعاد المؤسسية، بل يمتد إلى الشرائح الاجتماعية والسياسية المختلفة، ما يزيد من هشاشة النسيج الوطني ويضعف دور المجتمع في الدفع نحو إصلاح سياسي شامل.
البعد الاجتماعي: هشاشة النسيج المجتمعي
تتجلى آثار الأزمة السياسية والاجتماعية بشكل واضح في الضغوط اليومية التي يواجهها المواطن العادي. البطالة المرتفعة، محدودية الفرص التعليمية، تدهور الخدمات الأساسية، كلها عوامل تؤثر على شعور الأفراد بالكرامة والانتماء.
التنهيدة هنا هي زفرة مجتمع يئنّ تحت وطأة التحديات، ولكنه لا ينسلخ عن هويته. هي صوت أولياء الأمور الذين يقلقون على مستقبل أبنائهم في ظل نظام تعليمي متأزم، وصوت الشباب الذين يرون فرصهم تتقلص عامًا بعد عام.
> بيانات اجتماعية: وفق تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية (2023)، يعيش حوالي 54% من السكان تحت خط الفقر، ويعاني 40% من محدودي الدخل من انعدام الأمن الغذائي. هذه المؤشرات تعكس تهديدًا مباشرًا للكرامة اليومية للفلسطينيين.
الجانب الاجتماعي يمتد أيضًا إلى التأثير النفسي الجماعي، إذ تظهر دراسات علم النفس الاجتماعي أن فترات الضغوط الطويلة تؤدي إلى شعور متزايد بالعجز والقلق المزمن، ما يؤثر بدوره على القدرة المجتمعية على التفاعل الإيجابي والتضامن.
البعد الاقتصادي: تآكل القدرة الشرائية والفرص
الجانب الاقتصادي يعد أحد أبرز عناصر تهديد الكرامة اليومية. البطالة، خصوصًا بين الشباب والخريجين، والاعتماد الكبير على المساعدات الخارجية، يضع المواطن في حلقة مفرغة من العوز والانكسار الاجتماعي.
إحصائية: وفق تقرير البنك الدولي 2024، بلغت نسبة البطالة بين الشباب الفلسطينيين 43%، مع ارتفاع ملحوظ في معدل البطالة بين الخريجين الجامعيين، ما يجعل الاستثمار في التعليم لا يرتبط بتحقيق استقلال اقتصادي أو تأمين حياة كريمة
إضافة إلى البطالة، يعاني الاقتصاد الفلسطيني من القيود المفروضة على حركة البضائع والأفراد، والتبعية الاقتصادية الجزئية لإسرائيل، وارتفاع تكاليف المعيشة، ما يجعل كل يوم يمر اختبارًا لصمود المواطنين. هنا، تصبح التنهيدة صوتًا من داخل المنزل الفلسطيني، صوتًا صامتًا يعبر عن انكسار مؤقت لكنه يحمل مقاومة صامدة.
البعد الرمزي: التنهيدة كعلامة صمود
رغم كل الضغوط، تبقى “تنهيدة الكرامة” علامة على صمود الإنسان الفلسطيني. إنها تعبير عن قدرة المجتمع على البقاء، وعن رفض الانحناء أمام القهر اليومي. فالمواطن يواصل أداء واجباته اليومية، ويصرّ على تعليم أبنائه، ويقاوم الفقر رغم محدودية الفرص، محافظًا على كريمة الذات والهوية الوطنية.
التنهيدة هنا ليست ضعفًا، بل تعبير عن مقاومة صامتة، عن احتجاج على التهميش السياسي، وعن تمسك بالكرامة الفردية والجماعية. وهي مؤشر واضح على أن الشعب الفلسطيني لا يزال يمتلك القدرة على التغيير والإصلاح إذا توفرت الإرادة السياسية والاجتماعية والدعم الدولي الفعّال.
خلاصة واستنتاجات
تتحول تنهيدة الكرامة من مجرد زفرة إنسانية إلى رمز صمود واحتجاج هادئ، لكنها عميق الدلالة. فهي تعكس التحديات المركبة التي تواجه الفلسطينيين، وتبرز الحاجة الملحة إلى:
- إصلاح سياسي شامل يقلل الانقسام ويعيد الثقة بالمؤسسات الرسمية.
- سياسات اجتماعية تحمي الفئات الضعيفة وتضمن التعليم والصحة للجميع.
- تنمية اقتصادية حقيقية توفر فرص عمل وتحسن مستوى المعيشة، بعيدًا عن الاعتماد الكامل على المساعدات الخارجية.
- تعزيز الوعي الوطني وربط الكرامة الفردية بالكرامة الوطنية، لتصبح صمام أمان ضد الانكسار النفسي والاجتماعي.
في النهاية، تبقى تنهيدة الكرامة أكثر من مجرد تعبير إنساني؛ إنها مرآة الوطن وصوت الشعب، تحذر من الانزلاق إلى اليأس، وتؤكد أن الحفاظ على الكرامة—رغم كل الضغوط—هو الركيزة الأساسية لبناء مستقبل مستدام وعادل.




