دراساتثقافة وفنون
( الشعر السرياني..من الحاضنة اللاّهوتية الى رحابة الحياة ) تاليف وعدالله ايليا
الناقد والأكاديمي العراقي المبدع د.محمّد صابر عبيد
شكراً كبيرة للناقد والأكاديمي العراقي المبدع د.محمّد صابر عبيد لما كتبه ونشره من دراسة مهمة في جريدة العراقية الإسترالية عن كتابي الموسوم ( من الشعر السرياني المعاصر ) الذي ترجمتهُ من اللغة العربية إلى اللغة الفرنسية .
( الشعر السرياني..من الحاضنة اللاّهوتية الى رحابة الحياة )
يُعدّ الشعر السريانيّ أحد أبرز الشعريات في الشرق العربيّ منذ عصور قديمة، وإذا كان الشعر السرياني القديم مرتبطاً لاهوتياً بالكنائس والأديرة وقد اكتسب طابعاً دينياً صرفاً، فإنّ الشعر السريانيّ المعاصر انتقل من الحاضنة اللاهوتيّة إلى رحابة الحياة، وأصبح مثل تجارب الشعوب الشعرية الأخرى مهموماً بتفاصيل الحياة الذاتية والموضوعية معبّراً عن تجارب الشاعر السريانيّ كما هي الحال في شعريات العالم المختلفة.
الكتاب الموسوم “من الشعر السريانيّ المعاصر” يضمّ مجموعة مختارة من القصائد لشعراء سريان معاصرين ترجمها وعد الله إيليا إلى اللغة الفرنسية، وظهرت في هذا الكتاب باللغتين العربية والفرنسية بهدف نشر هذه التجربة عالمياً والتعريف بمجموعة من الشعراء السريان المعاصرين في العراق.
وقد أشار المترجم في مقدّمة كتابه إلى أنّ الشعراء السريان المعاصرين لهم تجاربهم الخاصّة بعيداً عن الموروث الشعريّ اللاهوتيّ القديم قائلاً: “لم يحظَ الأدب السرياني المعاصر باهتمام الباحثين، فجميع الجامعات العالمية والباحثين يتحدّثون عن الأدب السرياني القديم، باستثناء بعض الباحثين الذين يدْرسون السريانية المعاصرة. والسبب أن غالبية الباحثين يتناولون الأدب السرياني القديم كونه أدباً دينياً ويتناولونه من حيث مادته الفلسفية واللاهوتية ويتجاهلون الأدب السرياني المعاصر، وكأن اللغة السريانية قد انتهت أو انقرض شعبها، إلا أنّ هذا الشعب ما يزال حياً يمارس حياته اليومية ويعمل على تطوير مادته اللغوية والفكرية ونقل هذا الأدب من الكنائس والأديرة والفلسفة اللاهوتية، ليكون لصيقاً ومؤازراً لحياته اليومية في أفراحه وأحزانه ومعاناته”.
وتناول إيليا في مشروعه الترجميّ هذا إلى اللغة الفرنسية نصوصاً للشعراء يونان هوزايا، روبن بيت شموئيل، زهير بردى، بولص شليطا، بطرس نباتي، نزار الديراني، شاكر سيفو، لطيف بولا، أديب كوكا، نمرود صليوا، يونان هومه، عادل دنو، نوئيل الجميل، فهد اسحق، نهى لازار، إبراهيم خضر، متي إسماعيل، كوثر نجيب، أمير بولص، إنهاء سيفو.
يختلف هؤلاء الشعراء في نوعية تجاربهم وقيمتها الفنية والجمالية، وسنحاول أن نلتقط بعض المقاطع لعدد منهم، للتدليل على انغماس هذه التجارب الشعريّة الحديثة بهموم العصر الراهن وقضاياه وتفاصيله اليومية، ولاسيّما ما يتعلّق منها بالقضايا الكبرى في حياة السريان في العراق حيث تجلّت في أشعار بعضهم، بوصفها مرايا تعكس رؤياتهم الشعرية في نماذج متأثرة على نحو ما بالشعريّة العربيّة التي يكتبون فيها أشعارهم أيضاً.
يحضر في هذا المشروع الترجميّ الشاعر زهير بردى في قصائد عنوانها “نصوص تبتسم بثقب كبير”، ومن القصيدة الأولى “بغرور أنظر إليّ” نقدّم هذا المقطع:
“أسعى لأمشي ويقذفني إليّ تماماً نيابة عني لأرفرف كجثّة نيابة عن الموت، وأحفر كمراهق صغير الضريح وأنا أدخل إلى حفل سريّ وأشاهد نفسي في الجهة المقابلة للرقص، لم أستطع الخروج إليها ولم أعثر عليها لأنّها كما أرى أنّها ما زالت في مكانها. ترقص بقبّعة تشبه صلعتي وتبتسم بثقب كبير يشبه منزلاً عتيقاً سقط مكسوراً بمهمّة فراغات مثيرة من الماضي الذي كان يهتمّ بعزلته ويتسلّى بغناءٍ مخيفٍ، ومن أجل أن أقدر على المشي استعنتُ بعجبٍ إلى صدفة في أمرّ الأماكن تذوّقاً وبشكل دقيق، ورأيته وقد سبقني منتظراً فكرة أن أكون خلفه كأنّما يقودني إلى بوابة متحف رأيته منهمكاً بتقليب أصابع يديه. يحاول أن يعبر الكلام بما يليق تهشيم رغبته وأعني أن يأتي قبلي على قيد وقت مخصّص لأسمالي”.
يواصل الشاعر طريقته في كتابة جملة شعرية طويلة تكاد لا تنتهي في سياحة لفظيّة تأتي على شبكة من الأمكنة والأزمنة والذكريات والاستعادات، ويحاول تهشيم الصورة الشعريّة التقليديّة ورسم مسار شعريّ مختلف يقوم على ضخّ المشهد بكتلة لغويّة ضاغطة، تسعى إلى رواية سيرة الذات وسيرة القصيدة وسيرة التجربة وسيرة الرؤية وسيرة الأشياء داخل نسق غير منتظم، يلعب على حزمة من المفارقات، وعلى حساسية التضاد والتعالق والتصادي والتحايث وهو يغوص في تفاصيل غامضة لا تعبأ بصحة المرجعيات ووضوحها وانتمائها.
يستعيد الشاعر بولص شليطا ملكو في قصيدته “سفر آشور” تاريخ المكان الآشوريّ بحضاراته المختلفة كي يحوّله إلى محميّة شعريّة للأحفاد القادمين من حضن الضياع:
“من حرائق نينوى الحمراء
تناثرت حبّات البذور
إلى الجبال والوديان والسهول
إلى الجبال العاصية
في هكّاري وأورمي
وضفاف نهر الخابور
ونمت ما بين شقوق الصخور
زهور الشهداء الملوّنة
التي سقت تراب آشور
وبلاد الرافدين
لتكون شاهد عيان للأحفاد
وتنير دروبهم كالبروق”.
يسرد الشاعر هذه الرؤية الشعريّة المكانيّة التاريخيّة ويعرّف بجزء من تفاصيل الحكاية الشعريّة التي تمتد في أروقة الزمن، ثمّ تأتي قصيدة الشاعر “بطرس نباتي” الموسومة “أغنية في بيرغامون” وهي تعزف لحن الأمل، وتستعيد مجد أيام غابرات كانت الحياة فيها رمزاً لسلسلة من تجارب الوجود البشريّ صارت فيها هذه الأغنية مناراً للإنسانية جمعاء:
“أنا نجمة الصباح
عندما سطع ضوئي في كبد السماء
ومن قلب ظلام دامس لم يتمكّن ضوء آخر
أن يضاهيه ويتسلّط عليه
***
أنا الذي من بدء الخليقة
إلى اليوم.. أسحب ورائي
جميع جثث الماضي وكلّ الدماء
واضطهادات الزمن والتاريخ
آلاف جروح أحدثتها السيوف والرماح
تلك التي غرسوها في فؤادي
***
أنا الذي كتبتُ ونحتُّ
الكتابات الأولى وكلّ القوانين
على ألواح من حجر وطين
القلم المقدّس لم يفارق أناملي
ولهيب قلب يستعر
مثل شعلة لينير الدروب المظلمة
أمام الإنسانية التي كانت غارقة في الظلام”.
تسير القصيدة في أنساق سرديّة ودراميّة يتحوّل فيها الخطاب الشعريّ إلى حكاية تبدأ من فجر البشرية ولا تنتهي، فنورها الدلاليّ والسيميائيّ ينبثق من بؤرة التاريخ ومثابة الزمن ليحكي قصّة الحضارة الإنسانية الطاردة للظلام، ضمن صورة شعرية تقوم على فعالية التضاد بين النور والظلام، وبين الحضارة والجهل.
وفي السياق نفسه تأتي قصيدة الشاعر نزار الديراني “أنا ووطني في ميزان التجارة” وهو يحوّل الذات الشاعرة إلى كيان شامل يعيد فيها إنتاج المجموع القوميّ ويرسم خريطة المكان والزمن بروح شعريّة مشحونة بالألق والجمال:
“عشرات السنين…
وأنا أصنع من جبيني جسراً
للطائرات…
والدبابات…
وأجرّ برموش عيني ذكريات طفولتي
وقسوة الزمن
وأصنع من صدري موضعاً
أدفئ فيه أيادي الطغاة…
ورصاصات الأعداء
وأنا مطرود من بيتي ووطني
ولكن! كلّما كانوا يطردوني من الباب
كنت أتسلّقُ أشعة الشمس لأتسلّل من الشباك
وكلّما جرّدوني من وطنيني
كنتُ أجبلُ قريتي بلعابي وأخفيها في داخلي
لتصنع منها حنجرتي مزماراً
يطبع على وجه أولادي خريطة سفري
وأنا أتنقّلُ من القرية إلى المدينة
ومن الشرق إلى الغرب…
وكلّما كان الشتاء يحلُّ
كنتً أعصر عيون الصبايا
لأزيل من الأرض الجليد
ليخضرّ قلبي في أيام الجوع”.
إنّ البطولة الشعريّة الفرديّة هي في جوهرها بطولة جماعيّة قوميّة تتحدّى العوائق والمصدّات لتقول كلمتها في نهاية المطاف، وقد استثمر الشاعر طاقته الشعرية الواضحة في بناء تشكيل شعريّ ينتقل من الصورة الشعرية إلى المحكي الشعريّ، ومن المحكي الشعريّ إلى محاولة أسطرة اللغة لخلق رؤيا شعرية تقوم على دينامية التفاعل بين الحلم والواقع.
يسعى الشاعر شاكر مجيد سيفو في قصيدته “أمّي وقيامةُ الرّغيف” إلى استحداث أرضيّة شعريّة متكاملة تسمح برواية اعترافاته وتجلياته السير-شعريّة، فهو يزاوج بين الذوات والأزمنة والأمكنة والتفاصيل والتجارب كي يصنع النموذج المثال، ويجعل من شخصية الأم الشعرية كياناً يعيد فيه إنتاج الماضي بأكبر قدر ممكن من الحساسية الشعرية:
“مردقوش، أكليل الجبل، مليسا، كركم/ زيزفون، زعتر، قريص، حِلبة، دارسين، زنجبيل
هؤلاء ليسوا أصدقائي
حروف الرخام صديقاتي
أصدقائي باخوس، أسخيليوس، نابو، وآنو
كلّ ليل نحتسي العرق المغشوش
ولا نلتقي إلا في السرداب رقم (7)
أمّي كانت تنقش بحروف من ذهب جبينها
أبديتها
فوق رخام جسدي
وتوقظ فيه الرماد سبعاً وسبعين مرّة
تحصي سنابل أعوامها الثمانين
وتضحك أسنانها للتسعين
سنابل أعوامها تخضرّ في رماد عيني
وتجاعيدي
وارتعاشة النجوم في سمائي الثامنة
في رعشة النارنج والناردين
وسعادة يديّ الراعشتين”.
تختلط شخصية الأنا الشاعرة وهي تروي الحدث الشعريّ بوصفها راوياً شعرياً ذاتياً مع شخصية الأم بوصفها الحاضنة المرجعيّة الأصل، حيث تشتبك الشخصيّتان في تموّج شعريّ يُخضِع عناصر التشكيل الشعريّ كلّها لحركة الفاعليّة الشعريّة في أعلى درجات كفاءتها، من حيث اختزال الزمن واختصار المكان وتلخيص الطبيعة، في تشبيك شعريّ تتوحّد فيه الدوال والمحكيات والصور والتشكيلات داخل رؤية جماليّة واحدة.
الشاعرة نُهى لازار السّاتي تسخّر قصيدتها “القلب الجاهل” لمقاربة موضوع الحبّ بوصفه الموضوع الأنثويّ الأكثر عناية من الشاعرة الأنثى، فهو موضوع مصيريّ وجوهريّ وأساسيّ في الحياة يتحوّل في قصيدة الشاعرة إلى همّ وجوديّ أصيل:
“كثيراً ما قرأتُ وكتبتُ
عن الحبّ أكثر مما سمعتُ
لهذا تمنّيتُ أن أكبر لأصل إليه بسرعة
حلمتُ بشاعر جميل يضعني على فرسه
وهناك في السماء بيتاً من الغيم يصنع لي
انتظرتُ كلّ يوم بصلاتي
أدعو ربّي ليكبّرني
لأرى ذلك الحبّ وجنّته يدخلني
كان لي قلب صغير وقويّ وعظيم كالنارِ
لم يجرّب الحبّ وحين جرّبه أصبح أعمى”.
تقدّم الشاعرة معادلة خاسرة في رهان الحبّ ينتهي فيها القلب إلى فقدان النظر، ويتلاءم مع المثل الشهير أو المقولة الشهيرة في هذا الصدد “الحبّ أعمى” كناية عن أنّ الحب يفتقر لقرار العقل، بما يجعل القلب هو الأداة الحاسمة في اتخاذ قرار الحب بلا تفكير ولا تأمل ولا حسابات منطقية، وتسعى القصيدة هنا إلى تمثيل هذه الرؤية بلغة رومانسية أنثوية تستجيب بقوّة لحساسية هذه المقولة وتركيبتها اللسانية والشعرية.
يروي الشاعر أمير بولص عكو في قصيدته “خيمةٌ بلا زوايا” يوميات التهجير وترك مسقط الرأس واللجوء إلى مناطق أخرى، ب
تنتشر شبكة من الصور الشعرية على خريطة القصيدة لتعبّر عن جوهر الأزمة الوجودية التي تعيشها الذات الشعرية في ظلّ هذا الوضع الإنسانيّ الأليم والقاهر، إذ إنّ خرزات العمود الفقريّ هي طبقات تجربة الحياة بأدقّ تفاصيلها، ولا شكّ في أنّ إحصاءها يحتاج إلى معرفة وخبرة وتجربة كي تكون النتيجة صحيحة حسابياً-شعرياً، وتحيل مفردة “التهجير” على تاريخ قوميّ حافل بالمأساة تعرّضت له الذات الشاعرة بتاريخها الحديث وهي تروم الوصول إلى واحة تستقرّ عليها الروح ويرتاح فيها البدن في ظلّ سلسلة من الأفعال الدرامية تشكّل صورة الخطاب.
أما الشاعرة إنهاء سيفو فإنّها تستعرض في قصيدتها “أنا البياض يبقى أسود (إلى إشعار آخر)” تجربتها الضديّة الوجوديّة في صراعها مع الآخر، ولا سيّما حين يكون هذا الآخر هو الموت بكلّ ما ينطوي عليه من ترويع ومحو وقمع ودمار:
“أنا البياض والموت يبقى أسود…
أنظروا إليّ
أنا مشهد حيّ على مسرح الدمار
سرقوا مني أدوار البطولة
وأسدلوا على أحلامي الستار
ظنّاً أني سأموت وحيدة
وخلف الكواليس كفّنوا حضارتي
لم يتركوا لي شيئاً
كسّروا بمعاول الهمجيّة تاريخي
وزجّوا في النار كلّ صفحات عمري المشرقة
انظروا إليّ
أنا مشهد للإنسانية على مسرح الإقصاء
أمنح دروساً للبشرية
في الصبر والولاء للوطن”.
تنحو هذه الثنائية نحواً طباقياً على المستوى البلاغيّ بين “أنا البياض/ الموت يبقى أسود”، حين يتجلّى أنا البياض بوصفه الفضاء الإيجابيّ في المعادلة الوجودية، وبعكسه يكون الآخر/ الموت الأسود نقيضاً كلياً وسلبياً للأنا، فيتحوّل الفضاء إلى مسرح دراميّ يقدّم مجموعة من الدروس الإنسانيّة التي يكون “مسرح الإقصاء” فيها هو المحور، وما يتمخّض عنه من دلالات وقيم وصور وإشكالات تاريخية تخصّ الذات والمجموع القوميّ في آن.
إنّ هذه النماذج المنتخبة من كتاب “من الشعر السرياني المعاصر” لا تمثّل بالتأكيد كلّ هذا الشعر بنماذجه وأنواعه وتمثلاته المختلفة، لكنّها تلقي ما تيسّر من الضوء على تجارب شعريّة متنوّعة في قيمتها وأدائها الشعريّ الجماليّ، وهو كتاب يندرج في سياق التعريف المهم بهذا الشعر على مستوى الشكل الفني والرؤية الموضوعاتيّة، ويحقّق المقصد الحيويّ ضمن المقاربة الفنية العامة التي تعاين الشعر السريانيّ ضمن فضاء الشعريات المعاصرة على نحو من الأنحاء.