
21-06-2023
د. قتيبة محمود
بدأت تباشير النهضة والفكر القومي العربي منذ القرن التاسع عشر وتصاعد المشروع القومي العربي بعد النصف الثاني من القرن العشرين، حيث حقق ذلك المشروع انجازات كبيرة كما واجه في نفس الوقت تحديات جسيمة وصولا الى أجهاض النموذج القومي في العراق، أثر الاحتلال الامريكي الإيراني سنة 2003. وصاحب ذلك صعود نماذج للحركات الدينية المغطاة بغطاء الدين والتي يطلق عليها البعض تسمية الأسلام السياسي، وفي خضم شدة وقساوة التحديات والهجوم الذي تواجهه الامة العربية والذي احدث ويحدث يوميا كوارث فاقت ببشاعتها كل ما سبقها في التاريخ، ظهرت هنا وهناك دعوات ومراجعات مختلفة منها مراجعة الفكر القومي والمشروع القومي، او مناقشة الموقف من التراث، او التشكيك في ماهية الحضارة العربية الاسلامية والتخلي عنها، او الدعوة الى الديمقراطية الليبرالية، وغيرها.
وغالبا ما تترافق هذه الدعوات مع الخلط بين النظرية والتطبيق، او بين الفكر القومي والمشروع القومي، او بين التراث والحضارة، او خلط واضح بين الديمقراطية وبين الليبرالية واعتبار انهما لصيقان حتميان!! وأعتبارها البديل العملي لازمة الدولة القطرية، وبالتأكيد يُقصَد من ذلك تبني الليبرالية الغربية، في مفارقة غريبة حيث ان هذه الليبرالية تشهد الأن اعتى ازماتها البنيوية والتطبيقية والقيمية في العالم بما فيه موطنها الاصلي وهو الغرب.
ومن بين تلك التحليلات تحميل الحركة القومية العربية وفي مقدمتها، البعث والتجربة الناصرية بعد ثورة 23 يوليو عام 1952، أوزار ما آلت اليه اوضاع الامة العربية. ولسنا هنا في مقام الدفاع عن النموذج القومي الذي بناه البعث في العراق او الذي بنته ثورة يوليو في مصر، وتشابه التكالب الاستعماري والصهيوني على هذين النموذجين، واحداث التاريخ شاهدة على ذلك، فقد بنى النموذجان في القطرين وأن تفاوتت مستويات البناء ودرجاتة، قاعدة صناعية وعلمية وحققا مستويات من التنمية والعدالة الاجتماعية غير المسبوقة في الوطن العربي. وتعداد منجزات كلا التجربتين، أمر عسير على الجمع، فقد أحدثت تغييرا جذريا شمل كل نواحي الحياة، وهو ما برر استهدافهما.
بعض التحديات التي واجهها المشروع القومي
بالرغم من الأخطاء التي تصاحب أي مشروع تاريخي، الأ أن كلا القطرين، مصر والعراق تعرضا لتأمر واستهداف لامثيل له، من القوى الغربية وممثليها في المنطقه، فأجهضت الناصرية، بموت الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في 28 ايلول 1970، بعد أن تعرضت لأقسى ضربتين، الاولى بانفصال وحدة مصر وسوريا عام 1961، والثانية في نكسة حزيران 1967.
اما ما تعرض له النموذج القومي في العراق والذي اجبر الامبريالية الامريكية ان تأتي بجيوشها الجرارة مرتين وفي الثانية تم الغزو والاحتلال، فتمكنت من تدمير الدولة واستهداف منجزات الشعب العراقي.
ويحق للمرء ان يتساءل، ياترى هل كان الغرب الاستعماري وادواته ليحشد كل امكانياتة، وأحتياطياته لتدمير المشروع القومي، لو لم يكن هذا المشروع، قد حقق انجازاً جدياً على ارض الواقع وقطع اشواطا على طريق نهضة الامة، وشكل خطراً وجودياً، على الكيان الصهيوني؟ (1)
ورغم السلبيات التي ظهرت في بعض جوانب التطبيق والتي لا يكاد يخلو منها اي مشروع كبير في العالم، والتي جعلت هذا النموذج يظهر امام البعض على
غير حقيقته المستندة الى فكر قومي يؤمن بالحرية والتعددية، الا ان هذه السلبيات لا ينبغي ان يُنظر لها بمعزل عن التحديات التي تمت مواجهتها.
ان اي اغفال او تناسي حجم التأمر الذي تعرض له هذا النموذج، الذي ينبغي أن يوضع في الأعتبار اولاً، يجعل من اي رأي او تحليل، غير علمي ولا واقعي وبعيدا عن الحقيقة قبل ان يكون مُجحِفاً. فالعامل الخارجي الذي اجهض هذا النموذج، كان دوره حاسما، ليكون درسا للأخرين بعدم تجاوز الحدود المسموح بها لأي نظام سياسي قي المنطقة. فالأجحاف الذي لحق بهذا المشروع، هو النظر اليه من زاوية السلبيات التي رافقته حصرياً وتناسي الدور الخارجي الفاعل في استهدافه ومن ثم أجهاضه.
خطأ وضع النماذج الثلاثة القومي والسوفيتي والاسلام السياسي في صفٍّ واحد:
أمر اخر يستدعي الأهتمام، هو وضع النموذج القومي والسوفيتي والاسلام السياسي على صف مقارنة واحد، وهنا لن نقارن بين هذه النماذج ونكتفي بالقول ان الاول أُجهض بعامل خارجي، بينما الاخير رفضته الجماهير العربية بعد انكشاف ادعاءاته وخواء برامجه الا من الهدم لكل البنى المادية والمعنوية. كل ذلك برغم الحاضنة التي وفرتها القوى المعادية للأمة وما رافقها من دعم مادي وأعلامي لا نظير له، لهذا نقول بصريح العبارة لا تصح المقارنة بين نموذج البناء(القومي) وما رافقه من ممارسة للحريات وان لم يكن بمستوى الطموح، والدور الواضح للقطاع الخاص فيه، مع المركزية المطلقة للنظام السوفيتي سواء في السياسة او الاقتصاد او الاعلام.
كما لا يمكن مقارنة النموذج القومي التنموي وفكره المنفتح على العالم المعاصر مع نموذج الهدم للحركات السياسية المغطاة بغطاء الدين والتي يطلق عليها البعض مصطلح الاسلام السياسي، مع المآخذ العديدة على هذا المصطلح، والتي تتطلب تفصيلا ليس هذا المقال مكانه. ونظرةً لمآلات هذا النموذج، تنبيء بالحجم الهائل من الدمار الذي لحق بالأقطار التي تمكن منها. (1)
فالنموذج القومي مستند “الى منظومة معارف ومفاهيم قد تختلف في مضمونها من دون ادنى شك في ثرائها وقوة هيكلها النظري الصوري او الخارجي. اما نموذج الأسلام السياسي فانه خطاب دعوي، فلا يعدو ان يكون خطابا لفظانيا، يتوسل بالشعارات والآراء الجاهزة واحكام القيمة، ويجرب – فاشلا – ان يقدمها بوصفها فكراً او معرفة!” (2).
ان خطأ وضع النموذج القومي والسوفيتي والأسلام السياسي في صفٍّ واحد والاعتقاد بان الحل يكمن في الديمقراطية الليبراليه الغربية، هو خطأ كبير لانه يقفز من فوق حقيقة انها محملة بالمعضلات والتناقضات، “وان تاريخ الديمقراطية الليبرالية ينبأنا بأن مسيرتها كانت في أتجاهين، فمن جهة تم التأكيد على حرية الأفراد ضد السلطة والدولة، واسهام الافراد، من جهة أخرى، في ادارة الدولة” (3)، ويمكن الرجوع الى المصادر العلمية المشهود لها لنرى حجم التناقضات الفلسفية التي يزخر بها هذا المصطلح كما سنرى لاحقاً.
الديمقراطية والحرية في الفكر القومي:
ان القاريء للفكر القومي سيجد بين دفتيه اهتماماً بالغاً بالحرية والديمقراطية بالرغم من اعطاء هذا الفكر مسألة الوحدة العربية اولوية لكونها مكمن قوة الامة، وهي الأساس الذي تستند عليه الحرية والديمقراطية والعدالة والأجتماعية.
وبالرغم من بعض المحاولات التي تتسم بالقفز فوق الوقائع وتجنب التحليل العلمي الموضوعي، فإن الحقائق الواقعية التاريخية تشير الى ان الاحزاب القومية شاركت في الانتخابات النيابية في العديد من الاقطار العربية منذ أوائل خمسينات القرن العشرين الى يومنا هذا، حيثما اتيحت لها الظروف بذلك كما في سوريا والاردن ولبنان والسودان والجزائر وتونس.
كما ان الوقوع في خطأ تجاوز الواقع والموضوعية العلمية في التحليل، يشمل تضخيم بعض الاخطاء التي ظهرت في الممارسة (وليس في الفكر القومي ذاته) مما يؤدي الى تشويه النموذج القومي، بحصر وصفه بالإستبداد وهيمنة
الاجهزة الأمنية وحسب، في حين ان الواقع يشير الى ان ممارسة الديمقراطية الشعبية قد تطورت فيه شيئا فشيئا مع عملية تحقيق العدالة الاجتماعية والغاء التمايز الطبقي واتاحة كافة فرص التعليم والرعاية الصحية وافضلها في العالم لكل المواطنين، دون اي تمييز بين فقير او غني او طائفة او عِرق، اضافة الى القضاء على الامية واستكمال الوعي الأجتماعي بالديمقراطية. وفي هذا نحيل الى بعض المراجع بهذا الصدد ومنها كتاب الدكتور عصمت سيف الدولة، (هل كان عبدالناصر ديكتاتورا)(4)، لنرى كيف تعاملت تجربة ثورة يوليو مع مشاكل القطر المصري، في الجانب السياسي والديمقراطي.
اما في النموذج القومي في العراق فقد جرت اول انتخابات نيابية في حزيران 1980 ولولا الظروف الاستثنائية التي فرضتها الحرب الايرانية العراقية لأتخذت العملية هذه الممارسة الديمقراطية الابعاد المرجوة منها.
ورغم الاستهداف الغربي للامة العربية في كل اقطارها وبشتى الصيغ، الا ان القيادات والاحزاب والمثقفين القوميين في الوطن العربي قد فرزوا فرزاً واضحاً بين الحاجة الى النضال من اجل تحقيق الحرية والديمقراطية من جهة، وبين سياسات الغرب الاستعمارية ازاء الوطن العربي من جهة اخرى. فلم يحدث الربط بينهما ابداً او تحميل الديمقراطية وِزر تلك السياسات الاستعمارية الآخذة في التجدد دوماً. فقد خلى التراث الفكري لأي من الحركات القومية، او أي من المفكرين القوميين العرب، من مهاجمة الديمقراطية.
كما ان الفكر القومي لم يمارس “تضليل الوعي” لكي يبرر اي شيء وتحت اي مسوِّغ اطلاقاً، بل على العكس تماماً فقد اعطى الكثير من قادته وكوادره تضحيات هائلة في سبيل ابقاء هذا الوعي صميمياً.
نقد نموذج واحد وهو “الديمقراطية” الغربية، لا يعني مهاجمة الديمقراطية الحقيقية
ان ما ميّز الفكر القومي التقدمي العربي هو انفتاحه على العالم ونظرياته وقوانينه، واصراره على المعاصرة وعلى تحقيق الموازنة في معادلة (الاصالة – المعاصرة). فكان ذلك الانفتاح وما زال انفتاحاً واعياً مدروساً. فلا ينبهر
بالتسميات والنماذج البراقة المظهر، دون الغوص في حقيقتها. ولا يتقبل الصيغ الجامدة دون موائمة لواقعنا العربي. ومن هنا فقد نقد الفكر والممارسة الستالينية والتجربة السوفيتية الاممية، كما نقد وبوعي “الديمقراطية الليبرالية الغربية”، وكشف جوهرها في كونها حرية القلّة واطلاق يدها على الاكثرية من خلال عدة آليات وبنى تحتية تضمن السيطرة على الاكثرية. كما كشف حقيقة تحكم رأس المال والنخب العليا المالكة له في كل مفاعيلها.
ولكن في نفس الوقت فقد تفاعل الفكر القومي مع جوانب الديمقراطية الحقيقية بتبني دولة القانون التي يخضع فيها الحاكم والمحكوم للقانون وحقوق الانسان، والنظريات الأجتماعية، والجمعيات الاهلية غير الحكومية وغيرها. كما تفاعل مع بعض النظريات الفلسفية التي صدرت في الغرب والشرق، من نظريات العقد الأجتماعي لهوبز وجان جاك روسو، الى نظرية الفصل بين السلطات لمونتيسكيو الى افكار جون لوك، الى هيجل وماركس وانجلز، والقائمة تطول واعتبرها بمجملها أرث انساني، اخذ منه الفكر القومي وتفاعل مع طروحاته. وقد قيّم الفكر القومي ونقد الماركسية والرأسمالية، وبجهد فكري خلاق، وشجاعة واستقلالية مشهود لها، على الرغم من استبداد نظام القطب الواحد من خلال دعوات الهيمنة والعولمة والأمركة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي (1).
التحدي الصهيوني وانسداد الحل الديمقراطي لمواجهته
لقد تسببت الانظمة التي سبقت قيام الثورات، بدفع الجيش لأخذ زمام المبادرة، فقد كانت المنطقة في الخمسينات تغلي على وقع نكبة فلسطين عام 1948، وانسداد الحل الديمقراطي بالتغيير والمواجهة، مما دعى العديد من الأحزاب السياسية في الوطن العربي لتؤسس لها موطيء قدم في صفوف القوات المسلحة. فالتحدي الصهيوني، تطلب تحشيد كل طاقات المجتمع للمواجهة وهذا امر طبيعي تلجأ اليه كل الأمم الحيّة لاستنفار كل طاقاتها البشرية والمادية لمواجهة تحدياتها الاستراتيجية.
ان تحدي الوجود هو الذي فرض المواجهة، فهل نسمي قيام مصر بعد ثورة يوليو بتأميم قناة السويس عام 1956، جراً لشعب مصر الى الحرب؟، وفي الوقت الذي لا نعفي فيه النظام المصري من مسؤولية ما جرى في حرب 1967،
الّا ان التاريخ قد وثق تسبُّب التآمر الدولي في ذلك من خلال اعطاء ضمانات كاذبة للقيادة المصرية. كما لا يمكن ان نغفل ان الحرب كانت عدوان صهيوني استهدف الامة بكاملها. ومع ذلك فان النظام اعاد بناء القوات المسلحة، وهيأها لممارسة دورها في التحرير، وحرب الاستنزاف بين عامي 1968 – 1970، والانتصار في عبور القناة وتحريرها عام 1973 هي شواهد على ذلك اذ كانت نتاج ذلك البناء وتلك الاستعدادات.
وهل تصدي العراق للعدوان الايراني في 4 ايلول 1980 كان جرّاً للشعب في العراق نحو الحرب، ام مواجهة لمشروع ولاية الفقيه الذي ثبت بانه يستهدف كل الامة العربية تحت غطاء الدين؟
اما عن الدور التخريبي للإسلام السياسي وما فرخه من أفاعي، فالأمر ما عاد سرا، كيف خطط تحالف الشر الامريكي الصهيوني الايراني، وبتوزيع منسق للادوار في أختراق المجتمعات العربية، فكرياً وعملياً وصولاً الى تمكين هذا النموذج من الصعود الى السلطة تحت ادعاء كاذب هو حاجة الجماهير للانعتاق من “الانظمة المستبدة”. فلم يتحول نموذج الاسلام السياسي الى حالة بناء، بل كان عامل هدم للمجتمع وللدولة القطرية المأزومة اساسا ازمة بنيوية لا تستطيع الفكاك منها بسبب غياب التكامل القومي العربي(1) .
الديمقراطية والليبرالية
نظرياً فان الديمقراطية تعني حرفياً عند انطلاقها بالأصل من اليونان «حكم الشعب»، وهي شكل من أشكال الحكم حيث من المفترض ان يشارك فيها جميع المواطنين على قدم المساواة، إما مباشرة أو من خلال ممثلين منتَخَبين عنهم، في تطوير واستحداث القوانين التي سيعيشون في ظلها. وهي تشمل
الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تمكن المواطنين من الممارسة الحرة والمتساوية لتقرير المصير السياسي.
اما اللِّيبرالية فهي فلسفة سياسية تأسست على أفكار الحرية مثل حرية التعبير، والاهم من ذلك السوق الحر او اقتصاد السوق. وتقوم الليبرالية على الإيمان بالنزعة الفردية على حساب النزعة الجماعية.
وهناك خطأ شائع بأن الليبرالية والديمقراطية هما كلمتان متماثلتان في المحتوى والأهداف. لذا فان توضيح هذا الامر وعدم الخلط بينهما هو مسألة ضرورية، خصوصاً بعد أن علت أصوات المنادين بتبنّي الأيديولوجية الليبرالية كحل سحري سريع للمشاكل التي عانت وتعاني منها الامة العربية، وكواجهة لحرية القلّة الرأسمالية المهيمنة على الاقتصاد والاعلام والامن في الغرب من خلال اقتصاد السوق، لذا فان الإيديولوجية الليبرالية معنية في الدرجة الأولى بالفرد، فهي نظرياً مهووسة بالفردية، وما يسمى بالحرية الشخصية، مهما بلغ مدى انحرافها او ضررها الفادح على اخلاقيات وقيم المجتمع. بينما الديمقراطية معنية في الأساس بالجماعة والمجتمع، فركن الديمقراطية يضع في المقام الأول الحرية بمعانيها وممارساتها الشاملة من جهة، كما يضع في سلّم أولوياته موضوع المساواة من اجل مصلحة الجماعة من جهة ثانية.
في ضوء هذين المنطلقين المختلفين يستطيع الإنسان أن يفهم التناقض التاريخي الذي وقع فيه الغرب بين النظرية والتطبيق في قضية الليبرالية، من خلال هذه الحقيقة التاريخية: فلقد وقف الليبراليون في الغرب مع القوى المحافظة في السياسة (5).
اما بالنسبة للديمقراطية فمن الناحية الواقعية، نجد إن الغرب الذي جاء بالنظام الديمقراطي، يعيش الآن أزمة ديمقراطية حقيقية. وهذا يفسّر صدور الأعداد الكبيرة من الكتب الناقدة للحداثة والليبرالية والديمقراطية فيه، حيث تحدث الازمات السياسية والاقتصادية والثقافية التي يعيشها الغرب الآن في ظلّ النظام العولمي الرأسمالي المتوحش الجائر الخاضع لقيم السّوق فقط (5).
العوامل التي تساهم في نَخْر النظام اللّبرالي
هناك عوامل ادت وستؤدي الى نخر النظام الليبرالي ومن بين اهمها اضافة الى الازمات المذكورة اعلاه، هي محاربة الأسرة، وسن قوانين لحماية المثلية، واعتبار المثلية عقيدة الدولة، ووضع قوانين لمنع الوالدين من تنشئة الابناء، في تناقض واضح مع حقوق الانسان والحرية الشخصية للوالدين، واستعمال كل ما تملكه الدولة الحديثة من إمكانيات لفرض نظام اجتماعي جديد ليحل محل الأسرة. وهذا السلوك الجديد يعطي مبرراً إضافياً لامتنا بالاعتزاز بمقوماتها الثقافية والحضارية. ومن هنا فان المتبصر في مجريات الأمور على ارض الواقع، وليس النظريات البرّاقة، يعرف أن المشروع الليبرالي، بدأ بحفر قبره بيده، وان المشروع القومي في وطننا العربي له البقاء، فهو ابن هذه الأرض وابن هذا المجتمع.
ومن بين العوامل الاخرى هو ما حدثت من قهر وبشاعة في الساحة العراقية تحت اسم اللبرالية، حيث قام الغرب بتقديم ابشع نموذج لما يسمى بالفوضى “الخلاقة “، فمارس القتل والاستبداد وتدمير الموروث التاريخي للأمة وحرق مكتباتها وسرقة الموارد وتغيير الطبيعة السكانية بالعنف والتهجير. وكل ذلك باستخدام كل وسائل العنف والوحشية غير المسبوقة في التاريخ (6)، معطياً اسوأ نموذج للعالم لليبراليته المزعومة، ومساهماً بنفسِه في نخرِها.
ان رأي البعض في ان الليبرالية هي الحل، هو محل اعتراض كبير في وطننا العربي وفي العالم، حيث أنه بالإضافة الى ازمات الليبرالية المذكورة اعلاه، فان النفور من الليبرالية ناتج من اعتبارها مرادفة بوجه الأجمال، للنظرة الامريكية الى الحياة او النزعة الهادفة الى التشكيك في الدين وتهديم اواصره، او للنزعة الهادفة الى تحرر الافراد من كل تقليد وسلطة، الامر الذي يؤدي الى الاضطراب والفوضى (7).
ان اعطاء مضمون فلسفي للديمقراطية اوسع من مفهومها الأولي واعتبارها نظام اجتماعي سياسي يستخدم الانتخاب كألية لتكوين سلطة محكومة بثلاث
مباديء هي السيادة الشعبية، والحرية الفردية، والمساواة بين المواطنين (8)، يستوجب وضع الديمقراطية في وعاء الفلسفة. وهنا نتساءل، هل البعد الفلسفي للديمقراطية يستوعب تحولها الى نظام شامل للحياة؟، فاذا كانت كذلك فماذا يتبقى للايديولوجيات والافكار الكبرى.
انها دعوة للمناقشة واثراء الموضوع، فلا خلاف في ان الحل يكمن في دولة مدنية يسودها القانون، الدولة التي يخضع فيها الحاكم والمحكوم للقانون، والتي يتقرر فيها مبدأ الفصل بين السلطات تعتمد الانتخابات النزيهة وسيلة لاختيار من هم الاكفأ لمواقع السلطة، ترادفها الحرية المسؤولة، وتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية بتوفير الخدمات الاساسية لكافة المواطنين ومنع الأستغلال.
الخصوصية القومية في تشكيل النظام السياسي
ان تأطير المصطلحات بالفكر والفلسفة مهمة مطلوبة حيث تتوضح المفاهيم بعيدا عن اللبس والغموض، ويقابل هذا الأمر، أن تتحول الديمقراطية من أسلوب للحكم وممارسة السلطة، وأعطاءها بعدا ايديولوجيا وجعلها نظاما سياسيا (وسيلة وغاية في ان واحد)، والباسها لبوس الفلسفة، وهذا ما يقدمه بعض المفكرين، وهو جزء من مهماتهم في تقليب الأفكار وانضاجها. الا ان الواقع السياسي، وخاصة واقع الدولة القطرية يحتم ان يخرج الحل من عباءة الاساس الفكري والارث التاريخي للفكر القومي، الذي نرى انه الوحيد القادر على النهوض والتقدم بهذا الخصوص، بحكم التجربة، والتراكم النظري والأيديولوجي الذي يزخر به، “فالحياة الديمقراطية لا تتعارض مع الأيديولوجية، بل تعني ايضا ان حيوية الديمقراطية مرتبطة الى حد ما بحيوية الايديولوجية وخصوبتها” (9).
في العادة فان كل ظاهرة سياسية تنتهي بانتهاء وجودها، اما المشروع القومي والفكر القومي في الوطن العربي فما زال يمتلك مبررات، ومقومات، وجوده العملي والفكري. وهذا يحتم الحصانة تجاه الأنجرار او الاهتراز امام الحملات
الأعلامية الموجهه لشيطنة الفكر القومي ونماذجه التي رفعت راية النضال القومي في مواجهة أعتى الأعداء. فليس مهما كيف يكون شكل النظام السياسي، بل المهم مضمونه، فصياغة هذا المفهوم ليس امرأ عسيراً، مسترشدين في ذلك بالانتاج الفكري الثر للعديد من المفكرين العرب، فتتحقق الخصوصية القومية في تشكيل النظام السياسي، خصوصية منفتحة على الفكر الانساني، تستلهم تراث الامة وقيمها الحضارية. وتقدم للامة والانسانية نموذجا يُحتذى به.
المصادر :
1- د. نضال عبد المجيد ، الفكر القومي العربي طريق التقدم، حزيران 2023
2- عبدالاله بلقزيز، الدولة في الفكر الاسلامي المعاصر، ص (٢٦٥)
3- الدكتور منذر الشاوي ، فلسفة الدولة، ص( ٧٧١ – ٨٠٤)
4- الدكتور عصمت سيف الدولة، هل كان عبدالناصر ديكتاتورا.
5- د. علي محمد فخرو ، بين الديمقراطية والليبرالية، صحيفة الخليج، 9 أغسطس 2018
6- سعدون المشهداني ، مداخلة خاصة
7- ناصيف نصار، باب الحرية ، ص٤٧
8- ناصيف نصار، الديمقراطية والصراع العقائدي ص٢٣.
9- ناصيف نصار، الديمقراطية والصراع العقائدي، ص 9