ثقافة وفنون

ليمونوف: كيف أهلكت السياسة الأدب

ليمونوف: كيف أهلكت السياسة الأدب

سعيد خطيبي

روائي وصحافي جزائري

قبل سنوات، فكرت في الاتصال بالكاتب إدوارد ليمونوف (1943-2020) وإجراء حوار معه بعدما طالعت أهم أعماله. ترددت في البداية واقتضي الأمر مني بضعة أيام، قبل أن أغامر بالكتابة له في الإيميل ثم مهاتفته، فقد كنت إزاء واحد من أشهر الكتاب الروس في عز الحرب الباردة. كاتب منشق أدبياً وسياسياً، طافت شهرته الأرجاء في الثمانينيات، من واشنطن إلى موسكو مروراً بباريس. ليمونوف الذي كرس نوعاً مخالفاً في الكتابة، في سرد «الأندرغراوند» وفي تفخيخ اللغة الروسية من الداخل، مبتكراً مفردات وجملا جديدة لها، مستعيناً بالتخييل الذاتي في نصوصه، فقد استطاع أن يحول ما يعيشه إلى نصوص لا نزال نعود إليها، في كل مرة.
كان بوسعه أن يجعل من كل موقف يعيشه قصة، من غير أن يرأف بخصومه في كتاباته، ما جعل منه شخصاً غير مرغوب فيه في بلده، وصار مستهدفاً، لكنه نجا من محاولات محوه، معنوياً أو جسدياً، ظننت أن ليمونوف لن يقبل إجراء الحوار، وإن قبل فسوف يطلب مقابلاً مادياً، لكنني بمجرد أن كاتبته سارع إلى الرد عليّ وأرسل لي رقم هاتفه، وجرت الأمور بشكل طبيعي، تحدثنا عن الأدب، عن كتبه الأساسية (التي لم تصل بعد إلى العربية) على غرار: «الشاعر الروسي يحبذ الزنوج» «مذكرات الخيبة» و«صورة اللص في شبابه» عن سنوات نجوميته في أمريكا وفرنسا، في الثمانينيات، يوم كان الناس يتزاحمون للظفر بكتبه وتوقيعاته، ثم عودته إلى موسكو عقب تفكك الاتحاد السوفييتي، مغامراته في السياسة وحياته السرية بعد تعرضه لتهديدات بالقتل، ثم اعتزاله الكتابة، حين قال لي: «تفاديت كل الفخاخ عدا فخ السياسة» متحسراً على أن انشغاله المفرط في النضال السياسي، عقب تأسسيه حزباً في روسيا، نزع منه صفة الكاتب، وحوله إلى «صعلوك حقيقي» على حد تعبيره، فرط في الكتابة ولم ينجح في مساعيه للترشح للانتخابات الرئاسية ضد بوتين، بداية سنوات الألفين. ندم إدوارد ليمونوف على خياره، ولم يخجل من المصارحة بذلك، فهم متأخراً، أن السياسة من شأنها أن تكون نقيض الأدب، لم يفلح في ما أفلح فيه ماريو فارغاس يوسا، الذي أدرك كيف يوازن بين النقيضين، أضاع ليمونوف صفة الكاتب أمام أبناء وطنه، وأنهى حياته اسماً مغموراً، فحين توفي ربيع 2020، بالكاد ذكرت الصحف الخبر، مع أننا نتحدث عن كاتب كان الصورة الأوضح عن روسيا في حقبة حرجة، من ثمانينيات القرن الماضي.

الخروج من الاتحاد السوفييتي

حلم إدوار ليمونوف بحياة عسكرية، في روسيا، لكن قصر النظر منعه من دخول الأكاديمية الحربية. فقرر أن يتجند في الكتابة بدل الجيش. قضى طفولته متنقلاً من مدينة سوفييتية إلى أخرى، بسبب عمل والده في الجندرمة، لكن أطول فترة من سنوات المراهقة قضاها في بلدة خركوف (في أوكرانيا) هناك سوف يتعرف على عوالم خفية، يخوض مغامراته الطائشة، في السرق والنشل، ويكتب أوائل نصوصه الشعرية عن عوالم الأندرغرواند، هذه التجربة سوف ترافقه في حياته التالية كواحد من أشهر الكتاب في بلده. في سن العشرين من عمره، عقب تورطه في قضية سرقة، مع رفاق له، سوف يغادر خركوف، ويعبر الحدود منتحلاً جواز سفر مزيفا، إلى أن وصل نيويورك. في أمريكا سوف يكتشف الغرب، الذي طالما سمع أقرانه يذمونه، ويلامس حرية غير معهودة في الأرض التي جاء منها، فيطلب اللجوء السياسي، وينغمس في حياة جديدة، يتخلى عن الشعر وينفتح على الرواية، من غير أن يغير لغته، بل ظل يكتب بالروسية، فقد وجد من يترجم أعماله الأولى إلى الإنكليزية، ووجد جمهورا له في أمريكا، فواصل الكتابة وتحول مع الوقت إلى رقم عصي في الأدب السوفييتي، ولأنه كان سليط اللسان فلم يستثن أحداً من مواطنيه من الكتاب من النقد، لاسيما سولجنيتسين (نوبل للأدب 1970) الذي ظل ـ طوال حياته ـ يتهمه بالعمالة وبالإساءة إلى وطنه، قصد كسب مودة الغرب. شهرة ليمونوف قطعت المحيط الأطلنطي ووصلت إلى فرنسا، ولم يكن هذا الكاتب في حواراته المتلفزة مع القنوات الفرنسية يخجل من الظهور ببدلة جندي من الجيش الأحمر. كان الاستفزاز هوايته الثانية، بعد هوايته الأولى في تنويع علاقاته الغرامية، فلا يثبت قلبه مع امرأة حتى ينتقل إلى أخرى. من غير أن يكف عن انتقاد سياسة بلده، والسخرية منها. واصل ليمونوف صعوده الأدبي، إلى غاية مطلع التسعينيات، حيث اختفى فجأة، وقيل إنه عاد إلى روسيا، لكن الأكيد أن الصورة الوحيدة له في مطلع التسعينيات، تعود إلى عام 1993، إبان حصار سراييفو، حيث ظهر برفقة القوات الصربية يطلق قذيفة على حي بوسني. هكذا هو ليمونوف، لم يكن مع أحد وكان ضد نفسه، يتقلب في مواقفه وفي أفعاله وفي كتابته، لكن ذلك لم يغير شيئاً من سمعته عند القراء، وظلت كتبه تتداولها الأيدي وتترجم. ثم أطل من موسكو، أسس حزباً سياسياً، عارض بوتين، ود الترشح ومنافسته في الانتخابات، لكن وجهت له تهمة المتاجرة بالسلاح ومحاولة قلب النظام، فقضى سنتين في السجن، ثم عاد منهكاً وقد أدرك أن السياسة قد أحبطت سيرته الأدبية.

نهاية كاتب

وهو يتحدث إليّ في الهاتف، توقف إدوارد ليمونوف عند علاقته الصدامية، مع السياسة، من غير أن أسأله عنها، أشعرني بحزنه أنه لم ينهزم أمام بوتين فقط، بل إن الطمع خلف السلطة هزم روح الكاتب في نفسه، ففقد كل سمعته، في لحظة من لحظات جنونه، من أجل الأضواء السياسية، وهذه الحالة التي رافقت ليمونوف إلى آخر أيامه، لا تخصه وحده، فكثير من الكتاب أخطأوا التعامل مع السياسة، بدل مواجهتها نداً للند، الاستعانة بالأدب في تفكيك أساطير السياسة، انغمسوا في حوض الساسة (القادمين من مدرسة الديماغوجيا واللعب على الأحاسيس) فأضاعوا صلتهم بالأدب، فقدوا القراء الذين وثقوا فيهم، من غير أن ينجحوا في مشاريعهم السلطوية. كان في إمكان ليمونوف أن يواصل تعامله مع السياسة، كما كان في البداية، وفق نظرة استعلائية وساخرة، متمسكاً بحقه أن الأدب أعلى مرتبة من السياسة، لكنه فقد البوصلة في لحظة الأحلام المستعارة، تورط في لعبة ليست على مقاسه، وأضاع ما بناه طوال ربع قرن، وصار آخر عمره نسياً في وطنه.

روائي جزائري

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب