
السويد في مواجهة العابثين بروحية دستورها
بقلم عبد الباسط سيدا
وأخيراً قررت الحكومة السويدية اتخاذ إجراءات ملموسة من أجل وضع حد لاستعراضات إحراق نسخ من المصحف من قبل أناس لا تاريخ لهم في ميدان النتاج الفكري، أو حتى الحوار الفكري مع الآخر المختلف على قاعدة الود والاحترام.
فقد أعلن رئيس الحكومة أولف كريسترسون في مؤتمره الصحافي المشترك مع وزير العدل في حكومته غونار سترومر أن جهوداً مشتركة تبذل من أجل إدخال تعديلات على قانون النظام العام، بهدف حظر التجمعات التي قد تهدد مصالح السويد. وبيّن في الوقت ذاته أن هذه العملية لن تستغرق سنوات، ولكنها ستتطلب بعض الوقت من دون شك.
وكان لافتاً ترحيب الحزب الاشتراكي الديمقراطي، الحزب الأكبر في المعارضة والبرلمان، بالمسعى عبر المتحدث باسم السياسة الخارجية للحزب مورغان يوهانسون، وإعلانه عن الاستعداد للتعاون، والعمل على تمرير التعديلات المقترحة في البرلمان.
ومن بين ما أشار إليه أيضاً كريسترسون في مؤتمره الصحافي المشار إليه هو أن الإجراءات ستتخذ لضبط الحدود، بغية قطع الطريق أمام الأشخاص الذين قد يتسببون في جلب المشاكل للسويد. كما أوضح في الوقت ذاته بأن حكومته لن تسمح لأشخاص لا تربطهم سوى علاقات محدودة ضعيفة مع السويد أن يهددوا أمن البلاد بموجب أهداف خاصة بهم. ومن الواضح أنه كان يشير بذلك إلى كل من العراقي الميليشياوي القادم حديثاً إلى السويد، والمتطرف اليميني الدانماركي اللذين استغلا، وعلى الأكثر بإيحاء من أشخاص آخرين أو جهات معينة، الثغرات الموجودة في القانون السويدي، ليقوما بسلسلة من استعراضات الحقد أحرقا خلالها بطريقة استفزازية من جهة اختيار المكان والزمان والسلوكية نسخاً من المصحف؛ الأمر الذي أثار الكثير من التساؤلات والاشمئزاز بخصوص دوافعه وخلفياته. فهذان الشخصان بماضيهما الإشكالي، وإصرارهما على المضي قدماً في استعراضاتهما التي جوبهت باستهجان على المستوى السويدي والعراقي والعالم، وعلى مستوى العالم الإسلامي برمته بصورة خاصة، ربما كان من الأنسب أن يخضعا للمساءلة القضائية، بموجب القوانين السويدية بفعل إسهامها في تأجيج النزعات العنصرية بين المكونات المجتمعية في السويد وفي أماكن كثيرة من العالم. أما بالنسبة إلى العراقي الميليشياوي فتاريخه القريب يستوجب المساءلة القضائية، والمحاسبة في حال إدانته من قبل المحاكم السويدية المختصة بما يتهم به. وهناك تكهنات عديدة عبر عنها المسؤولون السويديون والجهات المختصة مفادها وجود قوى دولية خلف ظاهرة إحراق نسخ المصاحف في السويد، واستغلالها حصيلة التفاعلات الناجمة عن ذلك. والقاعدة الذهبية في مثل هذه الحالات تقول دائماً: ابحث عن المستفيد؟ ومن البدهي أن يكون مثل هذا البحث من اختصاص الأجهزة الأمنية وليس جزءاً من مهمتنا في هذا المقال.
ولكن في جميع الأحوال، لم يعد سراً أن روسيا هي المستفيد الأول في هذا المجال. كما أن النظام الإيراني هو الآخر لا يريد الخير للسويد التي ترتبط بعلاقات تجارية وثيقة مع دول إسلامية وعربية كثيرة، وهي متعاطفة مع الشعب الإيراني في سعيه من أجل الحرية والكرامة، بل وصل الأمر بالسلطات السويدية إلى حد القبض على أحد المسؤولين الإيرانيين السابقين (حميد نوري 2019) ممن يعتقد بأنه من المساهمين في ارتكاب جرائم بحق السجناء الإيرانيين.
أما تفسير تأخر رئيس الحكومة السويدية في اتخاذ قراره، رغم تعرضه لضغوط دولية كبيرة، تمثلت في قرار مجلس حقوق الإنسان الذي انعقد في جنيف، الذي أدان بتاريخ 12-7-2023 عمليات إحراق نسخ من المصحف. كما أدانت الجمعية العامة للأمم المتحدة إحراق نسخ عن سائر الكتب المقدسة بتاريخ 25-7-2023. وجاء القرار الأخير الذي اتخذه اجتماع دول منظمة التعاون الإسلامي بتاريخ 31-7-2023 ليدين بحزم عمليات إحراق نسخ المصاحف في كل من السويد والدانمارك، ويشكل ضغطاً جدياً على البلدين. هذا مع أن الاجتماع المذكور ترك الباب مفتوحاً أمام معالجة متوقعة من البلدين لهذا الموضوع الذي أثار الكثير من الجدل وردود الأفعال. ويُشار هنا إلى أن التوقعات من جانب حكومتي كل من السويد والدانمارك كانت تذهب إلى أن القرار سيكون أقسى وأشد، ولعل هذا ما دفع بوزير الخارجية الدانماركي لارس راسموسن إلى القول بأنه كان يتوقع الأسوأ. وفي ذلك إشارة إلى احتمالية المقاطعتين السياسية والتجارية.
والجدير بالذكر في هذا السياق، هو أن رئيس الوزراء السويدي كريسترسون كان في موقع، وربما ما زال، لا يُحسد عليه داخلياً. فقد كان يواجه ضغطاً داخلياً شعبياً وسياسياً لأن القسم الأكبر من السويديين لم يكن راضيا عما كان يحصل، رغم اعتزازهم بدستورهم الذي يضمن حرية التعبير. فما حصل إنما كان صيغة من الاستغلال المشبوه لثغرة دستورية قانونية، وكان إهانة لمشاعر المسلمين السويديين ولسائر المسلمين في جميع أنحاء العالم الذين يقدر عددهم بأكثر من 1.5 مليار إنسان.
ولعله من المفيد هنا توضيح مسألة هامة، وهي أن الكثير من المختصين السويديين في الدراسات الإسلامية وقضايا حقوق الإنسان والأقليات وغيرهم وجدوا أن الثغرة الدستورية المعنية لا بد أن تعالج، بل وجه بعضهم العتاب إلى السياسيين لتقصيرهم، وعدم قيامهم بمعالجة الأمر في الوقت المناسب. فالمعالجة القانونية للثغرة مطلوبة مادام هناك من يريد استغلالها لبلوغ أهداف خاصة به أو بغيره.
وفي الوقت ذاته كان رئيس الحكومة السويدية يتعرض، وما زال يتعرض، لضغط كبير فرضته المعارضة، خاصة من جانب الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي كان يطالبه بالتحرك السريع لإيجاد الحل؛ ويطالبه في الوقت ذاته بمعاقبة حليفه من خارج التحالف الحكومي ريتشارد يومسهوف، القيادي في حزب ديمقراطيي السويد، وإبعاده عن رئاسة لجنة العدل في البرلمان، وذلك على خلفية ما كتبه من كلام غير لائق بحق الرسول، واستخدامه في ذلك تعابير سوقية شعبوية مبتذلة؛ الغرض منها على ما يبدو هو المزيد من التهييج والإثارة، وكسب أصوات المتطرفين؛ الأمر الذي من شأنه في المقابل دعم مواقع المتطرفين الإسلامويين.
معاناة كريسترسون من تصريحات وممارسات حزب ديمقراطيي السويد لم تعد في نطاق الأسرار، بل باتت مكشوفة تتجلى في حرب التصريحات المتبادلة بين قياديي الحزب المذكور وأعضاء الحكومة السويدية حول موضوعات عدة منها موضوع الموقف من إحراق نسخ من المصحف. وما يعمق هذه المعاناة هو أن الحكومة لا تمتلك الأصوات البرلمانية الكافية للبقاء في حال قرر الحزب المعني (الذي يأتي في المرتبة الثانية من جهة عدد المقاعد البرلمانية، وذلك بعد الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وقبل حزب المحافظين الذي ينتمي إليه رئيس الحكومة) حجب الثقة عنها.
والطريف في الأمر هنا، هو أن حزب ديمقرطيي السويد، المعروف بتطرفه تجاه المهاجرين من الدول الإسلامية، يصر على رفض اتخاذ أي خطوة إيجابية في ميدان البحث عن حل مقبول لمعالجة المشكلة المعنية هنا، أو الانحناء أمام الضغوط الخارجية، لا سيما تلك القادمة من جانب الدول الإسلامية، وذلك بحجة ضمان حرية التعبير؛ يتناسى أن أبسط القواعد الديمقراطية تشترط احترام الآخر المختلف بغض النظر عن الخلفيات الدينية أو القومية أو العرقية أو الفكرية أو الجنسية.
وما يُستشف من المواقف المعلنة والتصريحات المتبادلة بين الأحزاب السويدية، هو أن التحالف بين حزب المحافظين والأحزاب البرجوازية في الائتلاف الحكومي من جهة، وحزب ديمقراطيي السويد الداعم لها في البرلمان من جهة ثانية، لن يستمر طويلاً، إذا ما ظل الأخير متمسكاً بسياساته وتوجهاته؛ وهذا فحواه وفق ما هو متوقع أن يكون المزيد من التقارب بين المحافظين والاشتراكيين بهدف التأسيس لسياسة سويدية مستقرة ناضجة مطلوبة أكثر من أي وقت مضى. فالظروف التي تمر بها أوروبا بصورة عامة، وتلك التي يعيشها الشمال الأوروبي على وجه التحديد، بالغة الدقة والتعقيد، وذلك نتيجة تفاعلات الحرب الروسية على أوكرانيا، ومخاطر اتساع نطاقها واشتداد وتيرتها، الأمر الذي يستوجب المزيد من التفاهم السويدي الداخلي بغية التفرغ لاتخاذ القرارات الصعبة التي تتطلب استقراراً مجتمعياً وسياسيا في الوقت ذاته.
الحكومة السويدية على ما يبدو اتخذت قرارها، وذلك بناء على ما يُستشف من المواقف والتصريحات. وهي اليوم في انتظار الموافقتين التركية والمجرية على انضمامها إلى حلف الناتو بغية قطع الطريق على أحلام بوتين الامبراطورية؛ وهي الأحلام التي تدفع بصاحبها نحو استخدام كل الأوراق، بما فيها ورقة النزعات العنصرية المتصاعدة في أوروبا، وورقة الإسلاموفوبيا المتطرفة كما فعل الأسد الأب حليف سلفه، وسار على خطاه الأسد الابن، وارث الجمهورية، حليف بوتين الآن.
*كاتب وأكاديمي سوري