
كتب مالك التريكي/ أبو هنري أولا: دبلوماسية «العقل الأجوف»
عادة ما يصير الدبلوماسيون والسفراء خبراء بشؤون الدول التي أقاموا فيها. ولهذا فإن وسائل الإعلام كثيرا ما تستضيفهم للاستنارة بشأن ما يجد في تلك البلدان من أحداث، فيصدق معظمهم ما هو متوسّم فيهم ويبرهنون أنهم من أقدر المفسرين والشرّاح. بل إنه ربما حصل انطباع لدى الجمهور بأن هؤلاء الدبلوماسيين السابقين قد تحولوا، بفضل حسن الفهم والإفهام، بمثابة سفراء لتلك البلدان الأجنبية لدى أوطانهم! لا بالمعنى الرسمي طبعا، وإنما بالمعنى المعرفي. ولكن العلاقة بين الدبلوماسي السابق والبلاد التي أقام فيها وخبرها لا تقتصر على المعرفة السياسية، بل إنها قد تتجاوزها إلى البعد الإنساني، حيث لا يندر أن يكون الدبلوماسي متقنا لغة البلاد، محبا لثقافتها وواسع شبكة العلاقات بين أهلها. وقد لاحظت هذا ملاحظة عيان من معرفتي بالدبلوماسي البريطاني الراحل السير جون موبرلي الذي شهدت معه، أثناء عملي في هيئة الإذاعة البريطانية، عددا من المؤتمرات في بريطانيا والمنامة والقاهرة وروما. فقد ظل محافظا على احترام بالغ للثقافة العربية واهتمام أصيل بشؤون بلدان المشرق والخليج. وكان مصدر الاحترام والاهتمام أنه عمل من أول الخمسينيات حتى نهاية الثمانينيات دبلوماسيا في البحرين والكويت وقطر وسفيرا في الأردن والعراق ووزير دولة لشؤون الشرق الأوسط في وزارة الخارجية في لندن. كما أذكر أني قابلت في واشنطن سيدة قالت لي إنها ورثت من الإقامة مع والدها الدبلوماسي في الرياض حبا للسعودية وتقديرا لنعمة الماء التي وهبها الله للأمريكان ولكنهم لا يقدرونها حق قدرها.
وددت لو أن السير جون نشر مذكراته، إذن لعرفنا بعض الخفايا والنوادر التاريخية من مثل ما ترويه مذكرات آرتشيبولد ماكنزي الذي عمل سفيرا لبريطانيا في يوغسلافيا وفي تونس، ومذكرات أنثوني بارسونز الذي مثل بريطانيا في البحرين وكان سفيرا في إيران عند سقوط الشاه، والذي كان عالي القدر عند مارغريت تاتشر لأنه كان أحد القلائل الذين لا يتهيّبون محاججتها.
في ضوء هذا كله، لكم كان مدهشا ما ذكرته الأنباء عن تفوه أحد الدبلوماسيين البريطانيين السابقين بعبارة عنصرية ضد العرب! فقد نقلت الديلي ميل عن مدير الشؤون العامة لبنك آيتش اس بي سي القول بأن «العقل العربي أجوف» وذكّرت الجريدة قراءها بأن السير شيرارد كاوبر ـ كولز هو في الأصل دبلوماسي بريطاني سبق أن عمل من 2003 حتى 2006 سفيرا في الرياض (وقبلها مباشرة سفيرا في إسرائيل)! وفي التفاصيل أن السير شيرارد قال للطلبة في مأدبة عشاء أقيمت في جامعة أوكسفورد لتشجيع النهوض بالعلاقات بين بريطانيا والصين: إنه عندما انضم إلى وزارة الخارجية في السبعينيات قرر تعلم العربية لما كان للشرق الأوسط من أهمية في الشؤون الدولية. وقال ضاحكا إن إدارة الشرق الأوسط كانت آنذاك تلقّب بـ«فيلق الإبل» ثم أضاف أنه نادم على عدم تعلم الصينية لأن «العقل العربي أجوف نسبيا مقارنة بالعقل الصيني».
هذا وقد ألقى السير شيرارد خطابه في أوكسفورد بصفته رئيسا للوبي «مجلس الأعمال البريطاني ـ الصيني». فالتفسير إذن واضح: إن لهذا الرجل، الذي ندد البريطانيون أنفسهم بعنصريته، قصة غزل علنية مع الصين، وإن مصالحه الشخصية ومصالح مؤسسته البنكية واللوبي الذي يرأسه وحرصه على تشجيع الطلاب البريطانيين المتفوقين على الاهتمام بالصين والتفاعل معها خصوصا في مجالات الاقتصاد والأعمال، كل ذلك حمله على أن يتملق «العقل الصيني» من خلال ذم «العقل العربي»… وبضدها تتمايز، وقد تتغامز، الأشياء!
ختاما، ثلاث ملاحظات: أوّلا، أبو هنري (كما كان يناديه السعوديون) لا يعرف الإنتاج الفكري والأدبي السعودي، ناهيك عن عموم الإنتاج العربي. ثانيا، أبو هنري مجتهد في تملق الصين. فقد انتقد الحكومة البريطانية قبل شهرين ونعتها بالوهن لأنها تتخذ من الصين موقفا مماثلا لموقف الإدارة الأمريكية. أما ثالثة الأثافي فهو أنه لا ينفك منذ التسعينيات يحمل على آخر حاكم بريطاني لمقاطعة هونغ كونغ، أي اللورد كريس باتّن الرئيس الفخري الحالي لجامعة أوكسفورد وآخر الباقين من عقلاء حزب المحافظين (مع جون ميجور وكنث كلارك ومايكل هزلتاين). وقد شن أبو هنري أحدث هجماته عليه
ليلة خطبة العقل الأجوف. لماذا؟ لأن اللورد باتّن سعى لإلزام الصين باحترام نظام الحريات المدنية التي كانت تتمتع بها هونكونغ ولأنه من القلائل الذين لا يزالون ينددون بإجراءات الترهيب التي دجنت بها بكين سكان هونغ كونغ وألحقتهم بجنتها الاستبدادية السعيدة.
كاتب تونسي