«الصمت الإعلامي» في مصر… والمالك الحقيقي لطائرة التهريب!
«الصمت الإعلامي» في مصر… والمالك الحقيقي لطائرة التهريب!
لدي من الشجاعة الأدبية لأن أعترف بأنني في طفولتي كنت أخشى من الكلاب، وكان إذا انطلق أحدها تجاهي، وضعت وجهي على الحائط، وكأني اختفيت من أمامه تماماً بمجرد عدم رؤيتي له، وهذا الخوف لازمني عندما كبرت، فقمت بـ “دراسة حالة” على الكلاب، ووقفت على أن كلاب الصعيد قد لا تنبح، لكنها تتعامل مباشرة مع الجثمان، وهناك لا يلقون اعتباراً كبيراً للكلاب شديدة النباح، لأنها لن تتجاوز ذلك إلى الفعل، وفي القاهرة اكتشفت أن كلاب الحضر مختلفة، فآخرها نباح، وتفتقد القدرة على الحركة والمباغتة!
بيد أن هذا الخوف لم يتحول إلى فوبيا، كما صديقي، الذي كنا نسير معاً ذات ليلة في أحد المناطق في إسطنبول، ونتجاذب أطراف الحديث، عندما نبح كلب من داخل أحد المصانع، ومع أنه يقف خلف باب حديدي مغلق ومقيد الحركة، إلا أن نباحه وحده كان كفيلاً بأن يجري صاحبي جري الوحوش في البرية، غير مبال بسيره على رمال تحتجز مياه المطر، فلم يوقفه ندائي له بأنه لا شيء يخيف، ولم يتوقف عن الجري إلا بعد أن “هُد حيله”!
وهذه السطور ليست في نقد الكلاب، حتى لا نحرض علينا جمعيات الرفق بالحيوان، لكنها خاصة بالنقد التلفزيوني، ومن حسن الطالع أنه لا توجد جمعيات للرفق بالتلفزيون، مع أن مقدمي البرامج في بعضها يمارسون النباح أيضاً، ويخوضون في الأعراض، وهو أمر لا تفعله ولا مؤاخذة الكلاب!
طائرة أم مغارة علي بابا؟
الدروس المستفادة مما سبق، هو هذا التقدير الطفولي في تعاملي مع الحدث الجلل، وهو اعتقادي أنه بمجرد أن أعطي له ظهري، اختفى مصدر الفزع، وكذلك تصرفت الترسانة الإعلامية المصرية، عندما تجاهلت حدثاً شغل الدنيا، وهو طائرة التهريب، التي تم الإمساك بها في مطار زامبيا، وقد تحولت إلى مغارة علي بابا، تحمل العملة الصعبة، والذهب (الذي تحول إلى نحاس)، بجانب أسلحة ومخدرات، وهو الخبر الذي تجاهلته القنوات المصرية، وبرامج الـ “توك شو”، وحتى المواقع الالكترونية المملوكة للشركة المتحدة، التي تورطت ونشرت الخبر، قامت بحذفه، والتعديل قرار مهني، لكن الحذف قرار سياسي!
واللافت هو هذا الاعتقاد الطفولي للقائمين على الإعلام المصري، الذي تضع السلطة يدها عليه بالكامل، أن تجاهل الحدث وحذف الأخبار الخاصة به، سيمثل تغطية عليه فلن يعرف بأمره أنس ولا جان، وهي عقلية بدائية، تدير هذا القطاع الكبير، كما لو كانت تعيش في فترة الستينات، حيث لا تتعامل غالبية الشعب إلا مع الإعلام الرسمي، وما دام راديو “صوت العرب” أعلن أن الجيش المصري على أبواب تل أبيب، فقد انتصرنا، ومع هذا، لم يجد النظام نفسه بداً من الاعتراف بالحقيقة، التي علمها الناس من الإذاعات الأجنبية عندما جن الليل، وهدأت الدنيا، وتمكنوا من التقاط موجات هذه الإذاعات!
وقد نظلم حقبة الستينيات إذا وجد من يعيش بين ظهرانينا ويعتقدون أنهم مصدر المعلومات الوحيد للناس، مع أن الصمت والحذف يدفعان للشك، في مسؤولية أهل الحكم عن ما حدث، وإلا ما لزوم التجاهل، ولماذا تحذف الأخبار التي تستمر عناوينها بارزة في محركات البحث، وبالضغط عليها تظهر مادة أخرى؟!
لقد وقع القوم في “حيص بيص” مع أن الطائرة تم احتجازها في زامبيا منذ يومين، وواضح أن السلطات هناك دخلت في مفاوضات، فلما فشلت هذه المفاوضات تم الإعلان، وهو وقت يكفي للاتفاق على خطاب متماسك، بدلاً من هذا الصمت ومن الحذف الذي دفع بالناس إلى الشك في مسؤولية الجانب المصري، مع أن الطائرة مسجلة في شركة في “سان مارينو” التابعة لإيطاليا.
الإخوان وراء النشر
واللافت أنه بعد الصدمة، أطلقوا ذبابهم الإلكتروني ليعلن أن من يقوم بالتشهير بالحكومة المصرية، ونشر خبر احتجاز الطائرة هم “الإخوان المسلمون”، الذين صاروا شماعة للقوم، يبدو أن لديهم شعوراً أنهم يستطيعون الانتصار في أي معركة بمجرد استخدام هذه الشماعة، ومؤخراً وإزاء الظروف الاقتصادية الضاغطة نظرت الى قناة “صدى البلد”، فإذا بي أتصور أنها قناة حديثة هي “صدى البلد زمان”، على وزن “ماسبيرو زمان”، لأن بها تكرار لذات خطاب صيف 2013 في الهجوم الساحق والماحق على الإخوان!
مع العلم أني لم أطالع الخبر في إعلام الإخوان، أو ما يحسبه القوم على أنه من الإخوان، وهو ليس من الإخوان، ولكني طالعته عبر موقع “العربية نت”، ومواقع أخرى مثل “سي إن إن”، وهي ليست مواقع إخواني، حسب رأيي!
بعد ساعات، وبعد أن علم البشر والحجر بأمر الطائرة الآتية من مصر، فقد بدأ النشر الجماعي لخبر بثته وكالة الأنباء الرسمية، وهو عن تصريح من مسؤول في مطار القاهرة، لا نعرف سبباً لعدم افصاحه عن اسمه؟ هل تواضعاً أم خجلاً؟ وقال هذا المصدر إن الطائرة ليست مصرية، وإن كانت قد أقلعت من مطار القاهرة فقد خضعت للتفتيش!
ومن حسن حظ “المصدر المطلع”، أن غالبية الناس لا يصدقون مثل هذه الروايات الرسمية، وإلا اكتشفوا ما احتواه التصريح من خطأ وخطل، لا سيما عندما يقول إن الطائرة خضعت للتفتيش، دون تقديم تفسير منطقي لاكتشاف الأشقاء في زامبيا أنهم أمام مغارة علي بابا، وليست طائرة ركاب!
وإذا كانت الطائرة تعرضت للتفتيش في مطار القاهرة، وقد أقلعت إلى زامبيا، فإن السؤال من أين لها بحيازة ملايين الدولارات والذهب والمخدرات والأسلحة، هل كان هناك من ينتظرها في الجو عند أول مطب هوائي مثلا؟!
فهذه الرواية المرتبكة لا تكتمل إلا بإعلان أن القوم في زامبيا يفترون الكذب، ويشوهون سمعة الطائرة وأصحابها، لكنه سياق سيجعل أهل زامبيا يقدمون الحقائق بالصوت والصورة، وقد تكون هذه الراوية سبباً في عدم المطالبة باسترداد البضاعة، ومن أن الواضح أن الذهب طمع فيه صاحب القسمة والنصيب بالإعلان إنهم اكتشفوا أنه نحاس!
«بلاها سوسو… خد نادية»
وإزاء تهافت الروية التي نقلتها وكالة الأنباء الرسمية المصرية، فإن المدافعين عن شرف أهل الحكم في مصر، روجوا لرواية تفتقد الى المصدر، أن الطائرة كانت “ترانزيت” في القاهرة، ولا تخضع بالتالي للتفتيش، وفق القاعدة التي أرساها الفنان الكبير فؤاد المهندس في مسرحية “سك على بناتك”: “بلاها سوسو … خد نادية”، فرواية المصدر المطلع عن وقوع التفتيش فيها ثغرات قاتلة، إذاً الحل هو أنها لم تخضع للتفتيش، لأنها كانت “ترانزيت” في مطار القاهرة!
لا بأس بهذه الرواية، لكنها لن تكتمل إلا بذكر اسم بلد الإقلاع الرئيسي، لكنهم لو فعلوا هذا، فسنكون أمام مشكلة عويصة، فالطائرة آتية من عمان- في الأردن، فضلا عن أن هذا قد يغضب الأردنيين، فينضموا الى فريق كشف الحقيقة، فلماذا يخشى القوم في القاهرة من الحقيقة؟!
وإذا علمنا أن قدوم الطائرة من عمان، وإذا افترضنا أن طريقها هو زامبيا، وأن القاهرة مجرد “ترانزيت”، فسيكون السؤال ولماذا هذا “الترانزيت” والمسافة من عمان إلى زامبيا هي تقريباً نفس المسافة من القاهرة الى زامبيا؟ وما توصلنا إليه بعيداً عن الجانب المصري أن الطائرة بقيت في مطار القاهرة (11) ساعة، الأمر الذي يجعلنا أمام رحلة جديدة، فالترانزيت في حدود ساعة أو ساعتين!
لن أساير روايات ذكرت، عن المالك الحقيقي للطائرة، وقد كشفت كذب الادعاء أن الطائرة مسجلة في الإمارات، وأن شركة التشغيل إماراتية، والصحيح أن هذه وهذه في سان ملاينو، لكن التسجيل والتشغيل لا يعني الملكية، فقد كانت عبارة المصري ممدوح إسماعيل الغارقة تحمل علم بنما، وقد فوجئت عندما توصلت الى أن نصف أسطول الطيران الرسمي اللبناني مسجل في نفس شركة سان ملاينو، لا سيما الطائرات الحديثة وليست مسجلة في هيئة الطيران في بيروت، كما هو متبع! وقالت الروايات إنها طائرة رجل الأعمال محمد أبو العنين، صاحب قناة “صدى البلد” ووكيل مجلس النواب، وكتبت إن بيانات الطائرة مختلفة عن طائرته الخاصة، فليست هي!
إن الصمت الإعلامي، وحذف ما نشر، لا بد وأن يجعل قبيلة من الفئران تلعب في صدورنا، لكن سنتغاضى عن هذا كله بالسؤال عن السر في عدم كشف الرواية الرسمية المصرية لتفاصيل الرحلة، ومن كان على متنها، ومن المالك الحقيقي للطائرة للتجاوب مع براءتنا.
لا بأس فسلطة لم تستطع إلى الآن أن تقدم رواية متماسكة بدون ثغرات، وأنا أطلب هذا من إعلامها، كم أنا ظالم!
فالإعلام في مصر مسير لا مخير!
٭ صحافي من مصر