اجتماعيات

بقلم محمد عبد الكريم ايوب -رثاء

رثاء

بقلم محمد عبد الكريم ايوب

في مثل هذا اليوم من عام 1977، كان يومًا رمضانيًا صعبا، حيث كانت درجات الحرارة أعلى من معدلها بدرجات قياسية. لقد عدت وأشقائي من المدرسة متعبين من شدة الحرارة ومن الصيام، كنت في الثامنة وكانت تتفاوت أعمار أشقائي وشقيقاتي بين الثانية عشرة والسنة ونصف، كنا ندرس أنا وأشقائي في ذات المدرسة التي يعمل فيها والدنا معلما لمادتي اللغة العربية والتربية الإسلامية، ما عدا نوال التي كانت بالصف الأول في مدرسة البنات، بينما كانت العائلة تنتظر فردا جديدا سيولد بعد ستة شهور. كنا نجلس في غرفة المعيشة، ننتظر آذان المغرب لتناول الماء ووجبة الإفطار، وكان الهدوء يخيم على المكان، رغم عددنا الكبير، حيث كنا نحاول تبديد الوقت بين اللعب والقراءة ولكن دون أن نثير الجلبة لكي لا نزعج والدنا الذي كان مضجعا في غرفته يحاول أخذ قيلولة وقد كان من عادته أن يقرأ قبل النوم، في ذلك اليوم كان يقرأ في كتاب “الحلال والحرام في الإسلام” للشيخ يوسف القرضاوي، كانت اجتهادات الشيخ القرضاوي في تلك الأيام تلقى صدى واسعا بين الناس، لما امتازت به من وضوح وبساطة وتيسير، أظن بأن تلك النسخة كانت الطبعة الأولى من الكتاب، كان قد اقتناه في نفس ذلك اليوم من زميله الأستاذ محمود بدر شلباية، الذي كان ناشطا في حركة “الإخوان المسلمين”، وما زلت أذكر مشهد الأستاذ شلباية يحمل رزمة من الكتب مربوطة بخيط كتاني قام بفكها وعرض الكتاب على والدي، الذي فتحه مباشرة وقرأ فيه قليلا، وسأل الأستاذ عن سعره فأبلغه بأنه بستين قرشا فدفع ثمنه وعاد به إلى المنزل.

بعد نحو ساعة من دخول والدي إلى غرفته، فتح باب الغرفة وخرج متكئُا على الجدار. وأعراض التعب والمرض على وجهه، يتصبب عرقا غزيرا يبلل بيجامته الزرقاء كمن خرج من بركة ماء، نادى بصوت ضعيف، وبلطف طلب مني وضع الفرشة باتجاه القبلة. لم أكن أفهم مغزى ذلك حينها، ولكني نفذت طلبه.

كنت أعتقد أنه يريد أداء الصلاة جالسا على الفراش، ربما كان يحتاج إلى الراحة بشكل أكبر وكان يريد أن يستلقي قليلاً قبل أن يستأنف مهامه اليومية، ولكنه بدلاً من ذلك تمدد على الفرشة بتعب.

طلب أن نستدعي والدتي التي كانت في بيت جدتي المجاور. ذهب شقيقي سمير لاستدعاء أمي. بينما كان والدي مستلقيًا على الفراش بوضعية غير طبيعية يضع يده اليمنى على عضده الأيسر ويشد عليه كأنه يريد استئصال الألم.

بعد وقت قصير، وصلت أمي ومعها جدتي وابنة عمتي مريم. كان الجميع قلقين وبادروا بسؤال والدي عما به. كان رد والدي، ببساطة وكأنه يقدم توضيحًا، بأنه يعتقد أنه تعرض لجلطة قوية وأنه قد يكون في آخر لحظاته، استنكرت أمي وجدتي هواجسه وطلبوا منه الهدوء والسكينة، ولكنه كان يبتسم لهم ويتمتم بأدعية طلب العون من الله

لقد كان ما يزال شابا في عنفوان الشباب، يتمتع بصحة جيدة وبقوام رياضي، ويمارس لعبة تنس الطاولة شبه يوميا.

ولكنه كان على اطلاع واسع على الأمور الطبية، يقرأ كثيرا في المجلات الطبية، وقد كانت لديه كل أعداد مجلة “طبيبك” الشهرية. إضافة إلى بعض الكتب الأجنبية التي كان يجلبها له عمي عبد العزيز من بريطانيا وأمريكا، فقد كان مولعا بالطب، وكانت دراسة الطب حلمه الذي لم يتحقق بالرغم من أنه كان من الأوائل على المملكة في الثانوية العامة.

لم يكن بمقدوري فهم معنى كلماته بالضبط. كنت في سن صغيرة، لم تكن تلك المفاهيم الطبية والصحية مألوفة لدي. وبالرغم من ذلك، شعرت بأن حالته الصحية قد تحتاج لطبيب وراحة.

ذهب أحد أشقائي لاستدعاء الأستاذ عوض البس “أبو حاتم” رحمه الله. الذي كان يملك سيارة، كان رجلًا لطيفًا ومحبوبًا في الحي. وبعد لحظات، وصل الجار الطيب وقام بنقل والدي إلى المستشفى بسيارته وأخذوا معهم شقيقي الأكبر سمير.

بقيت أنا وبقية أفراد الأسرة في المنزل، ننتظر بقلق وتوتر، جلست على عتبة البيت، بينما توافد الناس على منزلنا للاطمئنان والاستفسار عما يحدث.

لم يمر وقت طويل، حتى جاء النبأ الأليم. لقد توفي والدكم بسبب جلطة قلبية حادة في الشريان التاجي.

وقع الخبر كالصاعقة علينا، وعلت أصوات النواح والبكاء من أمي وجدتي وأشقائي، وانضمت إليهم جميع نسوة الحي. أما في الخارج فتحلق الرجال حول باب المنزل يلفهم الحزن والألم على فقدان جار يحبهم ويحبونه ومرب فاضل لم يبخل على أحد منهم بعلمه ومعرفته، كانوا واجمين يتحدثون عن فضائله وأخلاقه وشبابه، ولكن بصيغة الماضي: لقد سلمت عليه اليوم، لقد لوح لي في الصباح، لقد رأيته وصاحبته لصلاة الظهر والكثير مما يقال في مثل هذه المناسبة الأليمة.

في تلك الأثناء كان الأستاذ صبري أبو علفة “أبو رياض” في طريقه إلى منزله، ولكنه توقف ليستطلع الأمر، وعندما علم بنبأ وفاة والدي انهار مغشيا عليه، وهو ما حصل أيضا لعمي علي أيوب “أبو عايد”، فانشغل الناس بإنعاشهما ورش الماء عليهما، أما أنا فلم أكن قادرًا على فهم عمق الخسارة التي تعرضت لها الأسرة. كنت أجلس هناك مكتوف اليدين غير مصدق أن أبي لن يفطر معنا الليلة.

رحم الله والدي رحمة واسعة وجمعنا به في جنات النعيم

————————

بقلم  محمد عبد الكريم ايوب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب