مقالات

خاطرة وجدانية جديدة عن قرية يازور ونكبة عام 1948 بقلم الدكتور  محمد عبدالعزيز ربيع 

بقلم الدكتور  محمد عبدالعزيز ربيع

خاطرة وجدانية جديدة عن قرية يازور ونكبة عام 1948
بقلم الدكتور  محمد عبدالعزيز ربيع 
قرية يازور ونكبة عام 1948
بعد هزيمة 1967 بأيام وصلتُ مدينة نكسفيل في ولاية تنيسي القريبة من جبال جاتلنبيرج وغاباتها الساحرة. وفيما كنت أتأمل عظمة الطبيعة واستمتع بروعة حسنها وشموخها ورونق أزهارها، وأصغي لهمس الشجر وشدو العصافير، شعرت بأن شيئا يتغير في داخلي، شعرت بأن هناك شيئا غريبا يولد في أعماق ذاتي. كان قراري بعدم التحدث مع عربي لمدة أسبوعين على الأقل في أعقاب الهزيمة بمثابة صدمة هادئة أعادتني إلى وعيي وفجرت ينابيع المعرفة الكامنة في وجداني. لقد حملتني تلك الصدمة إلى الماضي البعيد لأتذكر أحداث ما نسيت من حكاية عمري وأشاهدها تعود على شكل خيالات وأحلام تعيد تمثيل ما حدث وتشكيله كشيء حي من جديد. وهكذا عادت ذكريات الطفولة والصبا والشباب تمر أمامي كشريط سينمائي تراه عيني كأطياف غروب على وجه القمر، ونباتات زعتر بري تكسو سفوح الجبال بينما تزينها كروم العنب والتين، وزهر البرتقال والليمون يعطر الهواء، وخيام لاجئين يعانون البؤس تغطي أرض صحراء قاحلة، وعواصف رملية تداعب خيام البؤس بقسوة تدمي العيون الحزينة وتحرق الشجيرات الصغيرة المتناثرة هنا وهناك.
كانت تلك التجربة حدثا هاما في حياتي جعلني أدرك أن العقل الباطن عبارة عن كمبيوتر يختزن كل شيء تقريبا، لكن دون أن يتبع نظاما علميا لترتيب ما لديه من معلومات، إذ يضع الملفات في أمكنة مختلفة تحتاج عملية البحث عنها أحيانا وقتا طويلا، في بعض الأحيان نحاول أن نتذكر تاريخ حدث أو اسم مكان أو أسم شخص دون فائدة. لكن، وبينما نغط في نومنا ليلا، نستيقظ فجأة على همس داخلي يذكرنا بما كنا نبحث عنه، ذلك هو دور العقل الباطن، يحتفظ بكل شيء ويذكرك به حين تعطيه فرصة لذلك، وهذا لا يحدث إلا حين يغفو العقل البشري الذي يعيش في الرأس. إن عقل الإنسان الذي يعمل دون توقف يقود الإنسان إلى الغرق في مشاغل الحياة اليومية ومعارك متعبة، وهذه مشاغل ومعارك تتسبب في هيمنته على حياتنا وإبعاد العقل الباطني عن مسرح الأحداث. لذلك كان على الإنسان الذي يود أن يستعيد ذكريات مضت وظنها دفنت تحت ركام الأيام والأحزان، أن يعطي عقله إجازة قصيرة، يستغلها في الخلود إلى السكون والتواصل الواعي مع عقله الباطن، ضميره الذي لا ينام ولا ينسى ولا يُفَوت فرصة لتسجيل ما هو مهم من الأحداث.
ومنذ ذلك اليوم وعدت نفسي أن أحكي حكاية عمري، وأن أتذكر وأسجل ما استطعت من أحداثها ومحطاتها الهامة، وهي محطات تكاثرت بسرعة فائقة لم أكن أتوقعها، ومن النادر جدا أن يعيشها إنسان واحد في غضون عمر واحد. وكي لا أنسى، واظبت على سرد تفاصيل الحكاية لنفسي، وإضافة ما يستجد من أحداث مهمة إلى مخزون الذاكرة، والخلو مع ذاتي بين الحين والآخر كي تبقى تلك الذكريات حية. عشت حياتي كرحلة شوق ساحرة حملتني إلى أماكن بعيدة ودول عديدة وشعوب مختلفة الثقافات واللغات تعيش في ظل أوضاع سياسية واجتماعية متباينة وظروف اقتصادية متفاوتة المستويات، بلاد جميلة وأحداث مثيرة أدخلتني في تجارب فرح ومرح وحزن ومعاناة وعذاب وألم لا يطاق أحيانا. تجارب عشتها تحت ضغوط قاسية، وتجارب عشتها في ظل وعود زائفة، وآلام متعة لا مثيل لها، ونشوة ألم على طريق الشفاء من مرض يستأنس طعم الألم. ومخاضات مستقبل حيث يولد الأمل، وينمو الحب، ويبحر الشوق، ويترعرع العشق، ويتجدد الفكر، ويختزن الضمير ما يحلو له منها.
تقع يازور التي تحاذي مدينة يافا ولا تبعد عن بحرها سوى أربعة كيلومترات تقريبا على الطريق الدولي الذي كان يربط يافا بالقدس مرورا بمدينة الرملة، وهناك في يازور كانت محطتي الأولى، حيث ولدت وتشكلت براعم طفولتي التي لم تزهر أبدا لأن العصابات اليهودية الإرهابية وصلت في أقسى ليالي الشتاء وأكثرها سوادا لتسرق طفولتي مني قبل قدوم الربيع وحلول موسم الإزهار. وحين صادرت تلك العصابات طفولتي حكمت على ذكرياتي بالانزواء بعيدا عن الأنظار لتغرق في بحر من الأحزان في أعماق الوجدان. وهذا تسبب بكبت تجربة حبي ليازور ولبارتنا ولشجرتي التين والجوافة التي كنت أتسابق مع العصافير على ثمارها، تلك العصافير التي عشقتها وغدا عشقي لها وشوقي لرؤيتها ثانية حقا لا يُنسى، وتجربة لا تمحى من الوجدان. ومع سرقت طفولتي ومصادرة ذكرياتي جاء الهروب من البيت في عتمة الليل تحت ظلال دخان القنابل وهطول أمطار غزيرة، ما تسبب في فقدان كل شيء مادي جمعه والدي في حياته، وكل حجر بيت بناه بيديه وعرق جبينه، وكل شجرة مثمرة ووردة عاطرة رعاها بقلبه ومنحها جزءا من حبه وروحه.
كانت يازور عبارة عن حديقة كثيفة من أشجار البرتقال والليمون التي كان المارة يشمون عبيرها ليلا ونهارا، ويغمرهم أريجها أينما كانوا، ويرافقهم عطرها حيث ساروا، غربا على الطريق إلى يافا وبحرها الساحر، أو شرقا على الطريق إلى قرية بيت دجن ومنها إلى وادي حنين أو صرفند وصولا إلى الرملة، أو شمالا على الطريق إلى قرية سلمة ومنها إلى قرى ساكية والخيرية وكفر عانة والعباسية وغيرها. وفي بدايات الربيع كان الحنون الأحمر يغمر روابي يازور وتغزوها الفراشات العاشقة للزهر ورحيقه من كل أرجاء الدنيا، فراشات تسافر عمرا بطوله عبر المحيطات لتتمتع بزهو الحنون ولون العشق الأحمر الذي يلون وجناته، وترشف رحيقه الذي يطيل عمر كل فراشة عاشقة، وترتوي من مياه يازور العذبة التي تشفى كل عليل وتطهر كل ذنب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب