مقالات

الموسيقار الأعمى  بقلم الدكتور ضرغام الدباغ

بقلم الدكتور ضرغام الدباغ.

الموسيقار الأعمى
 بقلم الدكتور ضرغام الدباغ
هذا عنوان لرواية لكاتبها ف. كورولينكو صدرت عن دار اليقظة العربية / دمشق، وهي دار قدمت الكثير من عيون الأدب العالمي للثقافة العربية. والرواية تدور عن طفل ولد ضريراً (أعمى) وبالطبع كانت هذه مصيبة فادحة لأهله، الذين حاولوا قدر الإمكان من تخفيف وطأة الكارثة، فقرروا أن يسلموه للموسيقى، وباستخدامه البصر والعقل، غذاء روحي ستغنيه بدرجة ما، عن القراءة والرؤية.
عهدوا به لمعلمة ذكية كفوءة، تعلمه الموسيقى والعزف على البيانو، والطفل الذي أبدى ذكاء وتعلقا بهذا المسرب الذي سيجد فيه مغزى لحياته، وطفق يتعلم بحماسة، ويتقدم بسرعة تفوق ما كانت معلمته تتوقعه منه.
ألف الطفل الموسيقى وصارت كل حياته، والنور الذي يبصر به والوسيلة التي يعبر عنها…وبلغت شدة الانسجام الروحي مع معلمته بحيث صارت تعلم ما يجول في خواطر الطفل، وتدرك أحاسيسه.
في تطور مطرد للعلاقة التفاعلية التخاطرية، تدور أحاديث ونقاشات موسيقية / فنية وإنسانية، تتحدث المعلمة حول موضوع فني، وهي تدرك أنها تحدث ضرير لم يرى النور في حياته، وخلال حديثها أتت على وصف لوحة أو مشهد طبيعي، وذكرت اللون الأحمر …وهنا سأل الطفل ما هو اللون الأحمر .. وأدركت المعلمة خطأها إلا أنها قررت مواجه الموضوع، وراحت تشرح له أن اللون الأحمر ربما يمكن وصفه بحركة قوية وتفاعل، نفسي عندما تغضب أو ربما تفرح، واللون هذا هو تعبير صارخ ينطق بالحركة هذه … واسترسلت بوصف بقية الألوان.
هذه الرواية قرأتها ربما قبل نحو 55 عاماً، وبالطبع الأحداث نسيتها ولكني لا أنكر أن تأثرت كثيراً بأبعاد الرواية الفنية والإنسانية، وطبعت أبعادها في فكري، إذ أن عليك أن تحدق الرؤية، وتفكر بعمق، وغالباً ما يكون جوهر الأشياء غير ظاهر على السطح، أو أن تغطيها ظواهر وعناصر ثانوية، وكثيراً ما يعرض لك أحدهم فلما مسلياً وجذاباً ولكنه يفتقر للمعاني العميقة، أو أن يكون ذلك بحد ذاته هدفا لصرف الأنظار عن المشهد الحقيقي …
ابتداء يجب أن توطد العزم، أن الأشياء التي تريدها صعبة المنال، وإذا كان قرارك نهائي بالوصول إلى أهدافك، فعليك أن تعلم عراقيل هذا المسعي ومسانديه، ولكن عليك أن لا تعتقد أن من يصرح لك بتأييده، بأنه سينفذ وعده، لذلك أعتمد على ما بحوزتك من قدرات، ودائما ضع العناصر الخارجية وإن كانت موثوقة بالدرجة الثانية. ولا تعود نفسك على الشكوى والعتب، والتظلم، فأعلم كما أنت تريد الجوهرة، هناك غيرك من يريدها أيضاً، ولكي تفوز يجب أن تكون خططك هي الأفضل، ثم قدراتك الذاتية، ثم ظروفك الذاتية والخارجية، ولا تدع الضجر يتسلل إلى قلبك وفكرك … كن ثابت العزم والجنان.
ثم أني وبوقت مبكر في مطلع العشرينات، تيقنت تماماً بأن الإنسان لا يرى بعينيه، بل بعقله. فقد تيقنت من عالم جيولوجيا عربي، أن الأمريكي الأول ” نيل أرمسترونغ ” الذي سار على أرض القمر عام 1969، أجاب على سؤال الصحفيين عند نزوله، : ” كيف رأيت القمر “، فأجاب الصحفيين : ” اسألوا الدكتور فاروق الباز (العالم في وكالة ناسا) أسألوه، فأنا وجدت القمر كما وصفه لي الدكتور الباز بالضبط “. وفاروق الباز لم يشاهد طبعاً القمر بعينه، بل بعقله.
ثم أني أعلم أن هناك من الخرائط التي تشير إلى أبسط العوارض على سطح الأرض، وحتى وجود طرق تسلكها الحيوانات والرعاة المدقات، والنياسم حتى آبار الماء المهجورة …! بدقة تتيح وضع الخطط التفصيلية للعمل في تلك المناطق التي لم تستطلع سابقاً.
ويستطيع علماء النفس، وأحياناً بعد جلسة قصيرة مع شخص (رجل أو إمرأة) أن يتعرف على دفائن الأسرار التي يحرصون على عدم كشفها، كما يستطيع المحقق البارع بناء على تأهيله العلمي وخبرته العملية، أن يكتشف بسرعة، وربما بألقاء نظرة فقط ما يحتاج لمعرفته. لذلك يعرف بين المحققين الممتازين، أن المحقق الذي يلجأ للتعذيب هو محقق فاشل حتماً. نعم من الصحيح أن المحقق الممتاز عليه أن يتوصل لجقائق وقرائن مادية، ولكن المحقق الممتاز يتعرف على شخصية من يقابله بالتطلع إلى أصابعه ووجهه وملابسه، ويكتشف أبعاد شخصيته، كما يعلم من خلال الأثر المادي لإطارات سيارة محملة بحمولة ثقيلة، لأن الإطارات تركت أثراً من ضغط الإطار على ارض الطريق.
ثم هناك عالم الأحاسيس …وهو عالم مدهش مليء بالاكتشافات المدهشة، وقد تدرب أحاسيسك فتبلغ درجة رفيعة من التنبؤ، وهناك بحوث في هذا المجال تطورت إلى علم ” الباراسيكولوجي ” وفيه مباحث ومنجزات مدهشة. فضاء العلوم والثقافة واسعة جداً ….. وهي تدعو الأشخاص الذين يرون ويبصرون بعقولهم وبمشاعرهم أكثر وأعمق مما يرون ويبصرون بعيونهم……
أعتقد جازماً، إن فكر الإنسان بعمق سيجد ما لا تبصره عيناه …! وسأبرهن على ذلك … يقال حين يكتشف الإنسان بوعيه أمراً يقوده إلى الثورة .. نقول ” صحوة إنسان أو شعب “.. الأشياء الأكثر عمقا نراها بعقولنا وليس بعيوننا ……
صديقي القارئ ….. فكر …..!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب