كيف تُستغل الملاحة البحرية كأدة للهيمنة السياسية والاقتصادية؟
اعداد عماد عنان

كيف تُستغل الملاحة البحرية كأدة للهيمنة السياسية والاقتصادية؟
يحتفي العالم في 28 سبتمبر/أيلول بيوم الملاحة البحرية العالمي، لمناقشة كل الأمور المتعلقة بتطوير مجال الملاحة وحل مشكلاتها الدولية وتعزيز دورها في الاقتصاد الدولي، وذلك في إطار جهود الأمم المتحدة الرامية إلى ضمان استخدام البحار والمحيطات والممرات المائية استخدامًا سلميًا يخدم مصالح البشرية على مستوييها، الفردي والجماعي، التزامًا ببنود اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار عام 1982.
وتكتسب الملاحة البحرية أهميتها لما تمثله عمليات الشحن البحري من أهمية محورية في منظومة الاقتصاد، إذ تشكل أكثر من 80% من مجمل التجارة العالمية في مختلف أنحاء الكرة الأرضية، ما دفع الأنظمة والحكومات لمنحها المزيد من الاهتمام والرعاية لا سيما بعدما تجاوز دورها حاجز النقل البحري الضيق فقط.
خلال العقود الماضية لعبت الملاحة البحرية دور البطولة في العديد من الأزمات والملفات، الإقليمية والدولية، وتحولت من أداة لمراقبة وإدارة عمليات النقل البحري، إلى وسيلة للهيمنة وبسط النفوذ، اقتصاديًا وسياسيًا وأمنيًا، وهو ما يمكن الوقوف عليه من خلال مظاهر التسييس التي طالت العديد من الممرات البحرية في الآونة الأخيرة وأسفرت عن عشرات الأزمات والصراعات بين القوى.
رقم صعب في الاقتصاد العالمي
تُعرف الملاحة البحرية أنها “علم وتقنية توجيه السفن من مكان لآخر وتحديد موقعها، وهي تمثل عملية التخطيط والتسجيل والتحكم بحركة المراكب في أثناء الانتقال”، وتطور هذا العلم مع مرور الزمن من البقاء بالقرب من الشاطئ واتباع الخط الساحلي، مرورًا باتباع الأبراج وحركة النجوم، وصولًا إلى التكنولوجيا المتطورة والاعتماد على الأقمار الصناعية.
تعود معرفة العالم بالملاحة إلى الفينيقيين والبولينيسيين، لكن التعامل معها كعلم بدأ عام 1100م حين اخترع الصينيون البوصلة لتحديد الاتجاهات، لكنها لم تكن بمستوى الدقة المطلوب، ومع التقدم العلمي الحديث تطورت البوصلة اليوم لتتناسب مع الأعماق السحيقة للبحار والمحيطات.
وفق التقرير السنوي الصادر عن مؤتمر التجارة والتنمية التابع للأمم المتحدة (أونكتاد UNCTAD)، بلغت التجارة البحرية 83% من إجمالي حجم التجارة العالمية و70% من قيمتها، فيما تجاوز وزن البضائع المنقولة في الحاويات 1.6 بليون طن، وتحتل موانئ شرق وجنوب شرق آسيا المرتبة الأولى بثلثي تلك البضائع، تليها موانئ أوروبا 16%، وموانئ أمريكا الشمالية 8%، وموانئ أمريكا الجنوبية 7%، وموانئ إفريقيا 4% فقط.
تستحوذ 10 شركات كبرى على حركة الملاحة البحرية في العالم، أهمها: شركة Maersk التي تأسست في الدنمارك عام 1904 وتمتلك أكثر من 700 سفينة شحن، وشركة MSC التي تحتل المرتبة الثانية بأسطول يبلغ 475 سفينة، ثم شركة CMA CGM الفرنسية، شركة COSCO الصينية، شركة HAPAG LIOYD الألمانية، شركة ONE اليابانية، شركة EVER GREEN وشركة YANG MING PACIFIC التايوانيتين، شركة APL السنغافورية، وأخيرًا شركة OOCL في هونغ كونج التي تمتلك أسطولًا يبلغ أكثر من 59 سفينة بحرية.
أداة للهيمنة وبسط النفوذ
ظلت الملاحة على مدار عقود طويلة وسيلة لإدارة السفن وتوجيهها والتحكم بحركة المراكب في أثناء الانتقال في البحار والمحيطات، لكن منذ أن عرف العالم عصور الاستقطاب والأقطاب المتعددة بدأ توظيف الملاحة لما هو أبعد من الوظيفة التي دُشنت لأجلها، فبدأت تتخذ منحى آخر يميل نحو التسييس ومساعي الدول نحو السيطرة وفرض أجندات معينة.
ورغم الأرضية التشريعية الكثيفة والقوانين المتعددة لتنظيم عملية الملاحة والابتعاد بها عن أي مآرب أخرى، فإن القوى الكبرى والأخرى المطلة على ممرات بحرية لوجستية، انقلبت على تلك التشريعات لتحول الملاحة إلى أداة لتوسيع دائرة النفوذ وفي بعض الأحيان تحويلها إلى سلاح ضغط يشهر ضد الخصوم والأعداء.
إيران والولايات المتحدة
تمثل طهران وواشنطن النموذج الأوضح لتوظيف الملاحة لأغراض سياسية وعسكرية، حيث ارتأت إيران أن العقوبات الغربية المفروضة عليها منذ عقود لا يمكن الانقلاب عليها إلا بتوسيع دائرة النفوذ، فسعت إلى إحكام قبضتها على خريطة الملاحة في مضيق هرمز وخليج عمان على بحر العرب وخليج عدن ومضيق باب المندب عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، وكلاهما يستقبل الحصة الأكبر من حركة التجارة العالمية، فمضيق هرمز وحده يمر من خلاله 40% من تجارة النفط في العالم، بإجمالي 16.5 – 17 مليون برميل يوميًا، كما أن 90% من نفط الخليج يمر عبر هذا المضيق.
ولأجل ذلك سعت طهران للتغلغل في الداخل اليمني من خلال دعم الحوثيين هناك وإحكام القبضة على مضيق باب المندب، للهيمنة على حركة الملاحة في تلك المنطقة اللوجستية الحيوية، بما يسمح لها بالتحكم في تجارة العالم، مما يزيد من ثقلها الإقليمي والدولي، ويقوي من أوراق الضغط التي لديها على موائد المفاوضات، سواء مع العواصم الخليجية أم الولايات المتحدة.
التوظيف الإيراني لحركة الملاحة لخدمة أجندتها التوسعية أثار حفيظة الأمريكان، ما دفعهم في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 إلى تدشين تحالف عسكري مكون من 7 دول (الولايات المتحدة والسعودية والإمارات والبحرين وبريطانيا وأستراليا وألبانيا) لحماية الملاحة في منطقة الخليج، وذلك في أعقاب تعرض بعض سفن الخليج للاستهداف من الإيرانيين في مايو/أيار 2019.
ربما لم تكن حماية الخليج السبب الوحيد لتدشين هذا التحالف، فمن المؤكد أن هناك أهدافًا أخرى تحاول واشنطن تحقيقها من خلال قطع الطريق أمام طهران بشأن السيطرة على الملاحة البحرية في تلك المنطقة المهمة التي تشكل محورًا لوجستيًا كبيرًا في خريطة المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا.
ومن أحدث المعارك الدبلوماسية بين واشنطن وطهران على ساحة الملاحة البحرية، رفض أمريكا استضافة إيران المؤتمر السنوي للملاحة الدولية الذي يتزامن مع احتفالات يوم الملاحة العالمي، وهي الخطوة التي لاقت ترحيبًا كبيرًا من أعضاء المنظمة البحرية الدولية البالغ عددهم 40 دولة.
وتشبثت واشنطن في دعوتها لعدم استضافة طهران لهذا المؤتمر إلى الاعتداءات التي ارتكبتها الأخيرة بحق بعض السفن في مياه الشرق الأوسط، ففي ورقة عمل قدمتها أمريكا للمجلس التنفيذي للمنظمة البحرية الدولية قالت إن إيران خلال العامين الماضيين “هاجمت أكثر من 20 من سفن الأنشطة التجارية أو تحرشت بها أو احتجزتها”، وأضافت أنها احتجزت أو حاولت احتجاز سفن تجارية دون سبب أو تحذير أو تفسير مسبق.
روسيا والبحر الأسود
يشكل البحر الأسود الفناء الجنوبي للقوة الروسية، وعليه كانت السيطرة على الملاحة به هدفًا إستراتيجيًا لموسكو منذ مئات السنين، فهو الجسر الأكبر الذي يعزز النفوذ الروسي في البحر المتوسط والشرق الأوسط وشمال إفريقيا وجنوب أوروبا، كما يمثل الصنبور الآمن لروسيا في مواجهة أي تمترس للأسلحة الغربية.
وبالسيطرة على حركة الملاحة في هذا البحر، رغم الاتفاقيات الدولية التي تمنح حرية التداول والحركة، تستطيع موسكو غلق الباب أمام أي اعتداءات غربية عليها، كما أنها توظفه كورقة ضغط على المجتمع الدولي فيما يتعلق بعرقلة الإمدادات الغذائية التي تهدد الأمن الغذائي العالمي وهو ما يحدث منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية فبراير/شباط 2022.
ومن هنا كان الاهتمام بالبحر الأسود وحركة الملاحة به من الإمبراطورية الروسية حين استولت الإمبراطورة كاترين العظيمة على شبه جزيرة القرم من الأتراك العثمانيين عام 1783، ثم تدشين أسطول البحر الأسود الروسي في “سيفاستوبول”، مرورًا بمساعي الهيمنة عليه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي لا سيما بعدما انضمت بعض الدول المطلة على البحر إلى المعسكر الغربي مثل بلغاريا ورومانيا اللتين انضمتا إلى حلف الناتو في 2004، وجورجيا وأوكرانيا المواليتان للغرب بطبيعة الحال.
ولا تتوانى موسكو عن بذل المزيد من الجهود لإحكام الهيمنة على حركة الملاحة في هذا الممر، مراقبة وإدارة، بما يحفظ أمنها القومي ويعزز نفوذها الدولي، وهي الإستراتيجية التي أوقعت روسيا في صدام بين الحين والآخر مع حلفائها وفي المقدمة منهم تركيا بعد استهداف بعض سفنها في البحر من الروس.
الصين وبحرها الجنوبي
بجانب قوتها الاقتصادية تحاول بكين توظيف الموقع اللوجستي المحوري لبحر الصين الجنوبي لخدمة أهدافها التوسعية العالمية، وقد اكتسب هذا البحر أهميته بسبب موقعه كونه حلقة وصل بين المحيطين الهندي والهادي ويتحكم في جزء كبير من حركة النقل البحري العالمية، التجارية والعسكرية (قرابة ثلث تجارة العالم تمر من خلاله).
وفي السنوات الأخيرة زادت أهمية هذا البحر مع زيادة حركة التجارة العالمية به خاصة مع وجود مضيق “ملقا” الذي يقع في جنوب شرق آسيا بين شبه جزيرة ماليزيا وجزيرة سومطرة الأندونيسية، ويربط بين بحر أندمان في المحيط الهندي (شمال غرب) وبحر الصين (جنوب شرق).
وتسببت محاولات الصين في السيطرة على حركة الملاحة في هذا البحر إلى توتير الأجواء أكثر مع جيرانها: الفلبين وفيتنام وتايوان وماليزيا وبروناي، حيث اعترضت القوات الصينية قاربًا فلبينيًا كان يحمل إمدادات لجنود فلبينيين متمركزين في جزر سبراتلي ببحر الصين الجنوبي، كما هاجمت خفر السواحل الفلبينية.
ووظفت بكين الملاحة في بحرها الجنوبي للانتقام من الفلبين وعرقلة تجارتها البحرية التي تمر من خلاله وذلك بسبب محاولة السلطات الفلبينية تعزيز العلاقات العسكرية مع الولايات المتحدة، الأمر الذي دفع الصينين لتضييق الخناق على جيرانهم عقابًا لهم على توطيد علاقتهم مع المعسكر الغربي، الأمر كذلك مع بقية الدول لا سيما تايوان.
مصر وقناة السويس
على مدار عقود طويلة مضت كان من يحكم قبضته على حركة الملاحة في قناة السويس يهيمن على حركة التجارة بين الشرق والغرب، وكان هذا الشريان الأهم عالميًا الذي افتتح في نوفمبر/تشرين الثاني 1869، أحد أهم الروافد التجارية والبحرية في العالم وما زال.
ومنذ أن كان هذا الشريان في قبضة المستعمر الأجنبي منذ نشأته وحتى تأميمه عام 1956، ظل أداة سياسية واقتصادية من الدرجة الأولى بيد المحتل، وهو ما حوله إلى معركة صراع ونفوذ بين مصر من جانب وبريطانيا وأمريكا وفرنسا و”إسرائيل” من جانب آخر، ثم وظفته القاهرة خلال العقود السبع الأخيرة سياسيًا لخدمة أهداف وتوجهات خاصة.
وعلى مدار تاريخها أغلقت قناة السويس أمام حركة الملاحة 5 مرات تقريبًا، لأهداف سياسية واقتصادية وعسكرية، الأولى استمرت قرابة أسبوع في أعقاب الثورة العرابية إبان الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882، والثانية خلال الحرب العالمية الأولى عام 1915 وكانت ليوم واحد فقط، أما الغلق الثالث فكان خلال الحرب العالمية الثانية واستمر قرابة 76 يومًا.
فيما أغلقت القناة عقب العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وتوقفت حركة الملاحة البحرية بها كإحدى أدوات الضغط على المستعمر، وأعيد افتتاحها في العام التالي مباشرة، قبل أن يتم غلقها للمرة الخامسة خلال حرب يونيو/حزيران 1967 لوقف الإمدادات الغربية لتل أبيب، واستمر الغلق قرابة 8 سنوات حتى أعيد فتحها مرة أخرى بعد توقيع اتفاق فض الاشتباك بين البلدين عام 1975.
وخلال الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 فتحت مصر القناة أمام السفن الحربية الأمريكية والبريطانية المتجهة لضرب العراق، ولم توقف الملاحة بها كما فعلت عقب حرب يونيو/حزيران 1967، رغم تعارض ذلك مع اتفاقية القسطنطينية الموقعة عام 1888 التي تنظم الملاحة في قناة السويس، الأمر الذي أثار الانتقادات الموجهة للقاهرة بسبب هذا الموقف.
وفي الأخير.. فإن التحدي الأبرز أمام العالم الآن وهو يحتفي باليوم العالمي للملاحة أن يشدد على ضرورة الالتزام ببنود اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار عام 1982 التي تضمن استخدام البحار والمحيطات والممرات المائية استخدامًا سلميًا ومنع أي توظيف سياسي لها لتعزيز نفوذ وسلطة قوى بعينها على حساب المصالح البشرية.
نون بوست