العَولمة الغربية الأمريكية وتَهديد الهُويَّة القومية. د. محمد رحيم آل ياسبن
د. محمد رحيم آل ياسبن

العَولمة الغربية الأمريكية وتَهديد الهُويَّة القومية
العَولمةُ، مفهومٌ ليس له تَعريفٌ ثابتٌ، بل تَعريفاتٌ عديدةٌ، وهي مرادفةٌ للنظام الدولي القائم أحادي القطبية، والذي تشير كافة المؤشرات والاحداث الى انه آيلٌ للسقوط ليَحلّ محله نظام تَعدُّدي في ظل الصراع العالمي بين روسيا الاتحادية ومَن تحالف معها كالصين والهند، وأمريكا والغرب (حلف الناتو) ومَن تحالف معهم. فأصحاب العولمة ودُعاتها يرون أنَّه نظامٌ مُتقَدِّمٌ، يجعل من العالم قريةً صغيرةً سواء من خلال وسائل الاتصال المفتوحة كالإنترنت والهاتف المحمول والقنوات الفضائية وغيرها، او من خلال الاسواق والتبادل التجاري المفتوح، او من خلال محاولة تذويب الهويات والخصائص الوطنية والقومية واحلال اخرى عالمية مبهمة محلها. وفي حقيقة الحال وبخلاف ما يُردّده دُعاة العَولمة من مظاهر يحاولون اضفاء صفة الايجابية عليها، الا ان كل ذلك لم يحجب الحقيقة الصارخة على ارض الواقع وهي ان كل هذا الانفتاح انما يجري لخدمة حركة راس المال العالمية التي تهيمن عليها الشركات العابرة للقارات، واداوتها المحلية المتمثلة بالمافيات والمليشيات المسلحة، وتدهور الامن العالمي مما ادى الى هجرة الملايين من اوطانهم، كما و تتَسبَّبت في تَراجع وتَقهقر الهُويَّات القومية للشعوب والأمم من خلال فتح الحدود بين الدُّول، دونما ضوابطٌ مُتَّفقٌ عليها، حيث أنَّ العَولمة من شركاتٍ وثقافاتٍ لا تحترم حدود الدُّوَل القومية، أو تضع لها اعتباراً. انَّه وإن أنكرَ المُنكرون صراعٌ بكلّ ما يعنيه الصراع بين عَولمتهم الغربية بحقيقتها، والهُويَّة الثقافية والهُويَّة القومية خاصة الشعوب المُستَضعَفة المُستَغَلَّة.
وللوصول الى الحقيقة الخفية للعولمة علينا أن نَستَقريء ونَستَطلِع صورة الإنسان الكامنة في خطاب العَولمة. فالعَولَمةُ في ظاهرها هي منظومةٌ اقتصاديةٌ، من خلال الحريَّة في انتقال السلَع الحُرّ، في حين تُبطِن الكثير في هذا التَوَّجه والمنحى والهدف الحقيقي منها. فهي تحاول منع نقل الخِبرات التَقنية والعِلمية من الدُّول المُصَنِّعة الى الدول النامية والفقيرة. انَّها في حقيقتها عَولمةٌ ثقافيةٌ لكنَّها ماديَّةٌ أكثرُ من كونها ذات أهدافٍ انسانيةٍ، فهي لا تأخذ بالحُسبان الأبعاد المعنوية الرُّوحية والأخلاقية لوجود الإنسان. والأنكى من ذلك فهذه العَولمة تحاول تَهميش ثقافة الشُّعوب النامية، وازاحة تراثها الإنساني وتذويب هُويَّتها القومية. فالعَولمة في باطنها تهدف الى محوِ الذاكرةِ التاريخية للشعوب والأمم. وتالياً فهي تَعمدُ الى مَحو وعيِّ الإنسان بذاته وشخصيته، من هنا فعلى الشعوب الحُرَّة أن تَنتبه الى أنَّ هدف العَولمة فى غاياتها وأهدافها البعيدة هو استغلال طاقات الشُّعوب لفرضِ سطوةِ راس المال العالمي وهَيمَنته على العالم. انَّها حالة من الالتفاف والاحتواء(السلس)، بدلاً من التَدخّل العسكري أو اللجوء الى العنف المباشر.
الكيان الصُهيُّوني والعَولمة مِعوَلان لهَدم هُويَّتنا القومية
يَجب علينا أن ندرك خطورة العَولمة كونها من مَعاول هدم هُويَّتنا العربية، وأنَّها تَهدف الى تَكيّف ابناء الامة العربية مع الواقع الحالي وقبول دوَيلة الصهاينة كجزء من هذا الأمر الواقع المفروض عليها، وبالتَّالي نُطبِّع علاقاتنا معها، ونعتبرها دولة من دول الجوار لنقيم معها العلاقات والاتفاقات! وهذا بالفعل ما حصل من قبل بعض الأنظمة العربية التي قامت بالتَّطبيع مع الكيان الصهيوني. انَّهما أيّ الصهاينة والعَولمة يَهدفان الى صياغةٍ جديدةٍ للإنسان العربي المُجرَّد من هُويَّته الوطنية والقومية بما يَسمح أن تَتُمّ (عولمته)، اي عولمة انتماءه، وبذلك تَتَحقَّق أهدافهما الاستراتيجية في احتلال الاوطان ونهب الموارد.
انَّ العَولمة وهي أحد معاول الهدم الخارجية للهُويَّة الوطنية والقومية تهدف الى محو الذاكرة التاريخية للشعوب والأمم الضعيفة والغائها، وخاصة الإنسان العربي وتحويله الى انسانٍ مُستَهلكٍ ومُتَلقِّي وليس له في الابداع والمبادرة في شيء، وتالياً يَتحوَّل هذا الإنسان الى انسانٍ عاجزٍ غير فعَّال، ومن خلال ذلك يَتغَلغَل المَدّ الصهيوني الى داخل المجتمع العربي. وعندها تكون البيئة مناسبة للتَّطبيع مع هذا الكيان المُسخ. والتَّطبيع هذا ينشأ عنه تَهميش الهُويَّة القومية للانسان العربي، فهُم يريدون العربي دونما ذاكرة، وبلا تاريخ وبلا هُويَّة.
ونَمرُّ هنا على قضية أخرى يعملان عليها، العولمة الغربية والكيان الصهيوني وهي إن لم يجدا الطريقَ سالكاً في عَولمة المجتمع العربي، وفي التَّطبيع مع العدو الصهيوني، ولاقيا فيهما رفضاً شديداً ومقاومة عنيفة، عندها يلجآن الى عولمة المنظومة الحاكمة والتَّطبيع معها، وهذا ما جرى في بعض الأقطار العربية للأسف، مما سيؤدي الى اتِّساع الفَجوة بين الأنظمة الحاكمة وشعوبها..
الخلاصة
اتفق الباحثون على أنَّ الهُوية ليست ذات معنى ومفهوم متحجِّر وثابت، بل هي متحرِّكة، فقد تكون في حالة من الانتعاش والحرارة، وفي حال آخر يصيبها الخمول والضعف. . أنَّ الشباب في حراكهم الشعبي وانتفاضاتهم وثوراتهم اليوم، هم بمثابة الجيل العربي الجديد، المؤمن بأمته وهويته القومية، والواثق من نفسه. وأنَّهم بحراكهم المستمر وتَلَّقيهم الموت برحابة صدور وأنفس، انَّما يحافظون على هُويَّتهم الوطنية والقومية. وبهذا فانهم يسقطون الاهداف المتوحشة للعولمة التي تتكامل مع المشروع الصهيوني في الوطن العربي. فالهوية القومية هي الحجر الاساس لوجود الامة وسلاحها الاقوى ضد مخططات استهدافها.