مقالات

عوض عبد الفتاح يكتب /مرة أخرى، فلسطينيو الـ48: مجموعة قومية مستهدفة

مرة أخرى، فلسطينيو الـ48: مجموعة قومية مستهدفة

عوض عبد الفتاح

منذ أن اشتّد عودها، عملت ودأبت القوى الوطنية والديمقراطية العربية داخل الخط الأخضر، على توطيد الوعي السياسي والوطني، من خلال إحياء الهوية العربية الفلسطينية، وبناء المؤسسات الجمعية، الشعبية، والنقابية والمهنية، التي تُرسخ هذه الهوية…

مرة جديدة، يُموْضع المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل ضمن المنظور الإسرائيلي، دولةً ومجتمعًا، كعدوٍ كامن، وطابور خامس، وقد باتوا يعيشون، في ضوء حملة التحريض، والاعتقالات والملاحقة، والترهيب غير المسبوق في خطورته، تحت ما يشبه حظر التجول، المفروض ذاتيا.

 

وتُقدر إحصائيات الاعتقالات والملاحقات، وطرد الطلاب الفلسطينيين من الجامعات، والعمال من أماكن عملهم، بالمئات حتى الآن. والخلفية هي أنهم فلسطينيون، يتفاعلون وطنيًا وإنسانيًا مع هموم وتطلعات وطموحات شعبهم المشروعة. والحقيقة التاريخية تفيد بأن المخطط ضدهم، المتمثل بفرض الفصل العنصري عليهم، والاستيلاء على أراضيهم، نُفّذ بحقهم فور قيام إسرائيل، قبل أن يتبلوروا كجماعة قومية فاعلة ذات مطالب حقوقية وسياسية، ردا على ذلك المخطط العدواني غير المتوقف.

فماذا يميز المشهد العام الذي نعيشه في هذه اللحظات العصيبة؟ لحظات الموت والإبادة.

في أوج المطحنة البشرية الجارية والمتصاعدة في مدن ومخيمات قطاع غزة، والتي تطحن الأبرياء، وتُدمر الحجر، يتشكلّ خطابان متناقضان ولكنهما في وحدة جدلية لا تنفصم، من حيث التأثير المتبادل؛ الخطاب الأول، ويأتي من الطرف المستعمَر، والثاني يأتي من المستعمِر.

الأول يقول، أو الأدق يُنقل عنه، إن ما قام به في 7 أكتوبر، مبادرة مشروعة للخروج من معسكر التركيز، أو من عذاب السجن الكبير، وأن نجاح العملية في غلاف قطاع غزة، يشكل بداية التحرر الكامل من الظلم.

والثاني يقول إنه كدولة وكشعب، يتعرض لخطر وجودي، من قبل حركة إرهابية، فيوغل في الانتقام البدائي، من المدنيين، والعزل، بعد أن حصل على مساندة سياسية ومددٍ عسكري من حلفائه الغربيين، ومن أقوى إمبراطورية عسكرية على الارض.

إذن، التعبئة والتعبئة المضادة في حالة سيولة شديدة واستقطاب لم يسبق له مثيل. طرفٌ يشعر بالنشوة واستعادة الحس بالكرامة، وإن كان ممزوجًا بالحزن والفجيعة على ضحايا حرب الإبادة من الأطفال والكبار، والآخر ينهشه الشعور بالإذلال والعار والصدمة، وكذلك الغضب العارم على من قُتلوا في هجوم حركة حماس على معسكرات الجيش والمستوطنات.

وتتبلور، من خلال الإعلام والتصريحات والممارسة في الميدان، صورة لحربٍ همجية وشيكة أو محتملة أوسع وأكثر وحشية مما نشهده في هذه اللحظات. ومآلاتها وفواجعها الإنسانية النهائية ومخرجاتها السياسية غير معروفة، وهو ما يبعث على خوفٍ وهلعٍ غير مسبوقين، بل على الإحساس بالرعب عند الكثير من الناس، ليس فقط في فلسطين بل في الإقليم ككل.

وبطبيعة الحال، يجد فلسطينيو الـ48، أنفسهم مرة أخرى في معادلة صعبة ومركبة، تنطوي على صراع داخلي حيث تمتزج فيها الأبعاد النفسية والسياسية والاجتماعية والوطنية.

فأين موقع ودور فلسطنيي الـ48 من كل هذا؟

في سياق هذا الفصل الدامي الجديد غير المنتهي، وحيث تضيق مساحات التعبير والحراك وتتسع وتشتد أجواء القمع والترهيب، داخل الخط الأخضر، هناك من يحثّ على مشاركة فلسطيني الـ48 في ما يعتبره المعركة النهائية الدائرة الآن، مفترضًا أو ربما جازمًا أنها معركة التحرر النهائي من أسر منظومة القهر وتحقيق العدالة، ودون أن يقدم دليلا على ذلك، الأمر الذي ينطوي على مغامرة حقيقية في نظر الناس داخل الخط الأخضر. ويرى هذا البعض، أن هذا التحرر الكامل الوشيك المفترض، أو المتخيّل، يستحق التضحيات أو الخسائر البشرية أو المادية التي يمكن أن يترتب على مشاركةٍ في النضال بطريقة تختلف عما مارسه هذا الجزء من شعبنا، من وسائل نضال سلمية؛ ثقافية وسياسية وقانونية وشعبية، منذ نجاتهم من التطهير العرقي، قبل 75 عاما، والتي لم تُمكنهم من الحفاظ على وجودهم الذي ظل مهددًا لسنوات طويلة بعد النكبة، فحسب، بل أيضا على تطوير قوتهم الذاتية، الفردية والجمعية.

وهذا النجاح في البقاء والتطور، بحدّ ذاته ليس إنجازًا وطنيًا، خاصًا بهم فحسب، بل أيضا بالشعب الفلسطيني وقضيته ككل، خاصة إذا ما تذكّرنا أن العودة كانت أحد الهدفين أو الشعارين المركزيين للحركة الوطنية الفلسطنية منذ الستينيات؛ العودة والتحرير، وحماية من بقى في الوطن.

منذ أن اشتّد عودها، عملت ودأبت القوى الوطنية والديمقراطية العربية داخل الخط الأخضر، على توطيد الوعي السياسي والوطني، من خلال إحياء الهوية العربية الفلسطينية، وبناء المؤسسات الجمعية، الشعبية، والنقابية والمهنية، التي تُرسخ هذه الهوية، لا سيما بين الأجيال الشابة، ومن خلال مقارعة أنصار الأسرلة، والأحزاب الصهيونية.

وانخرطت بنضالات شعبية ميدانية مساندة لنضال شعبنا من أجل التحرر من الاحتلال ونظام الأبارتهايد وعودة اللاجئين، وكسرت حاجز الخوف والكثير من القيود التي تُكبل أيديهم وتحجب حق التعبير عن الرأي وفي التنظيم، أي إقامة الأحزاب والحركات السياسية، والاتحادات الطلابية ومنظمات المجتمع المدني. وكل ذلك جرى ويجري في إطار قواعد العمل السياسي القانوني.

ومع ذلك، لاحقت سلطات نظام الأبارتهايد الناشطين والأطر، وضيّقت على منظمات المجتمع المدني، واعتمدت سياسات احتواء وتدجين، واللجوء إلى نشر الجريمة المنظمة، كل ذلك من أجل إضعاف هذا المجتمع وتسهيل السيطرة عليه وخنقه، وقمع تطلعاته بالحرية والعدالة والمساواة ونزع السياسة عنه، ومن ثم إخضاعه لما أنتجته إستراتيجية النهب والمصادرة، والإفقار.

وفي العقدين الأخيرين، بدأت هذه السياسات الصهيونية، والتي تتلخص في تقويض مكانة مواطنتهم المنقوصة أصلا، من خلال تمرير فيض من القوانين العنصرية السافرة، واعتماد فيض من الإجراءات القمعية والتدميرية، بموازاة تصاعد التوحش في الأرض المحتلة عام 1967، ومدينة القدس، وتبلور نظام أبارتهايد سافر بعد أن كان مستترا، كل ذلك بدأ يساهم في تنمية الشعور بأن مصيرهم واحد. وقد تجلى ذلك في ميادين الثقافة والأكاديميا والاقتصاد، والشباب، وفي مناسبات نضالية كثيرة.

وبناء على تجربتهم السياسية المتراكمة، ومعرفتهم بطبيعة نظام الأبارتهايد، وعدائيته التاريخية المستترة والسافرة تجاههم، واستنادا إلى قرائتهم لمزاج المؤسسة الإسرائيلية الرسمية ومجتمعها الاستيطاني، المعبأ بالحقد والتعطش للانتقام، بادروا إلى توجيه جهودهم نحو الداخل، داخل مجتمعهم.

وفي هذا السياق، تتكثف الآن المبادرات لحماية هذا الجزء من شعبنا، من عمال وطلاب، وأطباء، وغيرهم، الذين يتعرضون لقمع المؤسسة الرسمية، وللتهديد بالتهجير، وللتحريض الدموي من قبل جماعات وأفراد في المجتمع الاسرائيلي، من خلال إقامة لجان الطوارئ، والأطر الشعبية، وغيرها. ويمكن أن تكون هذه فرصة لإعادة تنظيم المجتمع العربي الفلسطيني داخل الخط الأخضر، وتحصينه، ولملمة الجسم السياسي، على أسس سليمة، بعد أن مرّ في السنوات الأخيرة في حالة من التفكك الاجتماعي وانهيار الأخلاق السياسية.

بهذا التوجه، أي من خلال التعزيز الذاتي، واجادة إدارة شأننا الداخلي بحكمة ورصانه وبصلابة، يستطيع هذا الجزء من مجتمعنا أن يصدَّ حملة الترهيب الحالية غير المسبوقة، وينهض، مجددًا، بعد التقدم في عملية التنظيم الداخلي الهادئة، ويعود إلى حلبة النضال الشعبي، الالتحام مع قضية شعبنا التحررية، في مواجهة منظومة الفصل العنصري والاستيطان، من أجل تحرر الفلسطينيين واليهود، من هذه المنظومة، وتحقيق العدالة والمساواة للجميع بين البحر والنهر.

وستفرض الأيام أو الأسابيع القادمة، التي تحمل في طياتها أنباء عن تصعيد التوحش، واجب التحرك الشعبي لوقف حرب الإبادة وسفك الدماء ومخطط التهجير وحماية الاطفال والنساء.

arab48 app google play

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب