مقالات
البوصلة السورية-حصاد ثلاثة وخمسون عاما من البراغماتية بقلم الدكتور ضرغام الدباغ / برلين
بقلم الدكتور ضرغام الدباغ / برلين
البوصلة السورية-حصاد ثلاثة وخمسون عاما من البراغماتية
بقلم الدكتور ضرغام الدباغ / برلين
أكتوبر ــ تشرين 1 / 2024
اصطدم النظام في دمشق بقطاعات واسعة من الشعب عام 2011، وكان البدء يتمثل بتظاهرات سلمية، بسيطة بدأت في مدارس الأطفال، كان يمكن مواجهة الأمر بسهولة شديدة، إلا أن النظام أعتبرها صعوبة شديدة وخطر، وقابل التظاهرات السلمية باستخدام القوة المفرطة، وصولاً إلى أسلحة الدمار الشامل (صواريخ بالستية، والغازات)، تسبب هذا الخيار بتدمير البلاد، وبعد وقت قصير من أندلاع الانتفاضة السلمية، تحولت لدموية، بفعل تسيد العقلية الأمنية القمعية، بدل الاستيعاب السياسي، قادت في نهاية المطاف إلى تدمير شامل للبلاد. وفيها خسر النظام خسارته الأعظم، وإن لم يحدث تغير النظام، ألا أن تغيره أصبح ضرورة موضوعية، أشارت إلى استحالة بقاء السلطة التي ارتكبت المذابح، وأدانت نفسها أمام الشعب، ومن بين ما خسره النظام تأييد الطائفة التي ينتمي لها، وكان يعتبرها حاضنته الشعبية. فواقعياً سقطت منذ عام 2012.
أصيب النظام بارتباك في الرؤية، يعقبه، وهذا طبيعي، تداخل في الصورة والموقف، وبالتالي يقود كل هذا إلى خلل في الموقف النهائي، وبين هذا وذاك من المواقف الذرائعية، والنفعية، أضاع النظام بوصلته، وأشتد تجاذب الأقطاب المغناطيسية، وما عاد مؤشر البوصلة يعمل بشكل سليم، إذ يصعب استقرار مؤشر الاتجاهات، فأضاع الطريق وفي ذروة أخطاؤه، أستعان بقوى أجنبية (إيران خاصة))سوف لن تقدم له الدعم النزيه، وخاصة مع نظام ثيوقراطي يبحث عن التوسع، فوجد الأرضية الرخوة السهلة، ونظام متهالك يفعل أي شيئ وكل شيئ ليبقى على رأس السلطة. وهكذا تجمع على أرض سورية مئات ألاف المقاتلين من جيوش: روسيا، إيران، وميليشيات شبه نظامية / رسمية ونظامية ” لبنان، العراق، إيران، باكستان، أفغانستان “، ونظام يتآكل، وحين لم يعد لدىه ما يمنحهم، صار يهديهم الجنسية السورية، وبيوت وأراض وممتلكات المواطنين السوريين الذين أرغمهم القتل العشوائي والحرب على الهجرة (12 ــ 15 مليون مهاجر).
الآن بدأ البلد يفقد خصائص الدولة/الوطن، والوضع أصبح معقداً لا جدال في ذلك، حتى للقلة من له مصلحة ببقاء النظام، صار الوقوف مع النظام عيباً وعار على من يحاول التقرب منه. ومع ذلك حاولت دول عربية أن تمد له يد المساعدة، ليس من أجل انقاذ رأس النظام/ بل انقاذ سورية التي كان كل عاقل يراها تنحدر لهاوية سحيقة. وإضاف للتعقيد صعوبة. وفي السياسة ليس هناك جهاز ملاحة كما موجود في الطائرات (واليوم حتى في السيارات / Navigator) أو جهاز موجد الاتجاهات وهو جهاز مدهش يعطيك بدقة تامة نقطة الإرسال (Direction Finder) ولكن في السياسة نفتقر لمثل هذا الجهاز، ولكن يمكن أن نستخدم الرياضيات العالية (السجال الاستراتيجي) ولكن هذه تشترط إدخال نزيه لمعطيات دقيقة إلى المعادلة أو الموقف لاكتشاف الموقف الصائب.
في سوريا هناك عباقرة فلسفة ورياضيات، ولكن النظام ورأس النظام بعيد عنهم بعد الكواكب والأفلاك عن بعضها، فالمرحوم العالم والفيلسوف السوري، الدكتور نايف بلوز، هو من علمنا هذه الآلة الفلسفية (السجال الاستراتيجي)، وحتماً هناك غيره في سوريا التي تحفل بكل المدارس العلمية، ولكن النظام يميل للمصفقين والمهرجين وليس للعلماء، والنتيجة المؤكدة كما نراها: خلل في البوصلة. وحصاد طبيعي مؤسف جدا لسياسة ذرائعية، نربح من هنا، ونكسب من هناك، ونستفيد من هذاك، العروبة التي كان القادة علويون من أعمدتها، والكادحون العلويون ذخيرتها، صارت غير مهمة ومعطفا نرتديه اليوم ونخلعه غداً، البعث العقائدي صار طبلاً أجوفا سخيفاً، بعد أن شرعنوا التحالف مع الفرس المعادين للعروبة، والتحالف مع من يمكن الانتفاع منه، حتى في تجارة بيع الكوبتاغون صارت تنتجه وتسوقه، وتهربه لدول أخرى، حلالا زلالاً، وبها أنزلت أسم سوريا الحبيبة البلد المحترم في قائمة الدول الرئيسية المتاجرة بالمخدرات ….. سورية فقدت البوصلة فأضاعت الطريق.
اعتقدوا أنهم بالسياسة الذرائعية / البراغماتية يطول عمر حكمهم، وتناسوا أن العلويين كانوا قادة العروبة يوم كان زكي الارسوزي، فائز اسماعيل، وسليمان العيسى، وبدوي الجبل، وعمالقة أرتقوا بالطائفة إلى مواقع عالية جداً، ولكن جاء من أنزلها للحضيض جداً، واعتقدوا أن نظام الملالي يمكن أن يكون بديلاً عن الخط التقدمي / القومي/ البعث اليساري .. طريق انحرفوا عنه فأدى إلى هذا النتيجة المرة المؤلمة والمؤسفة جداً … ربطوا مصيرهم بالملالي، مع نظام ثيولوجي / اكليروسي (نظام المراتبية في الدين)، رجعي وحفنة مخرفين … يمثلون أسوء جناح رجعي خرافي في الاسلام، رهنوا انفسهم بيد قوى معادية للعروبة والاسلام، واحكم الفرس قبضتهم على البلاد، وخلقوا فئة طفيلية صار لها جذورها الاجتماعية، وما شهدناه من هيمنة تامة كان نتيجة طبيعية جداً ومتوقعة، فكيف يتمكنون من إنقاذ الموقف… وبأي تكاليف …! فهم تعلموا من الفرس، أن كل شيئ يبقيهم في الحكم هين ومقبول … كل شيئ نشتريه، يمكن أن نبيعه …. نحن والحكم الثوابت وسوانا متغيرات …! هذه رؤى لا تنفع إلا لمن يدير مقهى متخلفة وقرية حقيرة ..!
تملصوا بالأسلوب السوري الناعم المهذب من الدخول في مطحنة وفخ وحسناً فعلوا ..، وأيضاً سيعتمدون على روسيا، حسناً أيضاً، ولكن روسيا لديها مشروع عالمي كبير وأجندة مليئة بالمشاريع والمواعيد، والمخاطر ..وليست متفرغة لكم ولا لمشاكلكم العقيمة .. الاعتماد أولاً وأخيراً على النفس ، على الشعب واخوانهم، وما تفعله في بيتك تأخذ وتعطي بين أهلك ليس عيباً ولا عاراً، ولكن كيف وهم قطعوا جميع الجسور مع الجميع، ببساطة، هم لم يعودوا يملكون شيئاً .. كل شيئ موجود كان شكلياً وهيكيليا فقط، والخروج من هذا المأزق لم يكن سهلاً … البقاء فيه يحمل روائح الموت …ولا أحد بوسعه أن ينقذك ما لم تبادر بنفسك لانقاذ نفسك ..! فالأذرع التي امتدت لانقاذه، ارتدت خائبة. حتى منصب الرئيس لم يعد بوسعه أن يصدر أمراً ربما حتى لسائق سيارته. لهذه الدرجة أنحط الوضع. والعجز التام، هو حصاد طبيعي للسياسة البراغماتية.
المشروع القومي تبخر، الأهداف الوحدوية صارت حلما من الأحلام، أن تصبح سورية مقراً لليسار العربي، صار بعيداً بعد القمر عن الأرض، التنمية باتت خرافة …. ماذا بقي …. لا شيئ، ما تبقى من القليل جداً ممن يحترمون شرف الجندية وشرف السلاح، ماذا بوسعهم أن يفعلوا ..؟ ليس هناك باعث واحد على الكفاح … بل هناك 100 باعث للاستسلام، وهنا صار السيد الرئيس منطقياً، يخدع الجميع ” المساعدة الروسية قادمة ” ” أصدقاؤنا سيساعدونا ” ” اصمدوا ” ولمستشارته ” دعينا نجتمع لنضع خطابا للشعب ” ، فيما كان هو يعد العدة بشكل سري للغاية، افراغ الخزائن وحمل ما خف وزنه وغلا ثمنه، والتقطته طائرة روسية، وبعد مجموعة تمويهات وخدع، وصل السيد القائد إلى موسكو لينال لجوءا إنسانياً، وينعم بمليارات الدولارات أخذها معه، وبيوت سوبر فخمة أشتراها بأموال الشعب .. شخصياً اكتشفت كل هذا عام 1974، فاتخذت قراري المؤلم … أن أغادر بصمت، كل شيئ ذهب مع الريح ……..
هذا إجمالي القصة.