فلسطين وغسان كنفاني . بقلم نادية هناوي
فلسطين وغسان والقضية
تحدثتُ في مقالة سابقة عنوانها «ثقافتنا قطع أم قطيعة» عن وضع المثقف العربي اليوم وهو يعيش حالة القطيعة مع نظرائه في البلدان العربية، فلم يعد المغربي والمصري والسوري اليوم يعرف من مبدعي العراق كما كان يعرف بالأمس تجارب السياب ونازك الملائكة وبلند الحيدري والبياتي وعبد الملك نوري؛ فالمبدع العربي اليوم يعيش في جزر معزولة بعضها عن بعض، وثمة حواجز كبيرة وحدود فاصلة. وألقيتُ باللوم على المجلات العربية التي ما عادت تحقق ما حققته نظيراتها في العقود السابقة من وحدة ثقافية في الهموم والتطلعات والمنجزات، وهو أمر على جانب كبير من الصواب.
وخلال حضوري مؤتمر (غسان كنفاني للرواية العربية) الذي انعقد في العاصمة الأردنية عمان للمدة من 14 ـ 16 شباط/ فبراير 2023 تأكدت لي أشياء كثيرة، منها أن للمؤتمرات أيضا دورها المهم في ردم بعض من تلك القطيعة بين الأدباء والمثقفين العرب، وأنها قادرة على أن تقوم بما يكمل ما كانت تفعله الدوريات الثقافية بالأمس، ولا تستطيع المجلات العربية اليوم أن تقوم به، فقد جمع هذا المؤتمر مفكرين وباحثين وأدباء عربا من مختلف أصقاع الأرض العربية الواحدة، التي قطّعت أوصالها الحدود السياسية اللاسيادية. فواجهت شخصيات لم أكن أعرف سوى أسمائها من خلال اطلالاتها عبر صفحات الدوريات النزرة جداً، التي استثنيناها في مقالنا آنف الذكر؛ شخصيات كبيرة في تجاربها، وغنية في عطائها، وعميقة في مشاويرها. قابلت إبراهيم السعافين والناقد صبحي حديدي والباحث شكري عزيز ماضي وسعيد يقطين وسعد البازعي ومحمد شاهين وأسماء خوالدية ورزان إبراهيم، والروائيين إبراهيم نصر الله وهاشم غرايبة وسحر خليفة وسامية العطعوط وأمير تاج السر وحسن حميد، وغيرهم من الأسماء الأدبية والثقافية والفكرية التي ما أن تجسدت أمامي كيانا كاملا حتى أحسست بأنّ الثقافة العربية قادرة على تغيير حالها، حتى لا غربة ولا اغتراب، بل أسرة تجمعها وحدة مصير ثقافية وأدبية واحدة، على تباين مشارب أعضاء هذه الأسرة وتغاير قدراتها وتفاوت مرجعياتها.
ولعل هذا الشعور هو أجمل ما أحسست به وأنا أجد في طبيعة اللقاء بالأشقاء من الأدباء والنقاد، الحماسة عينها والتوجهات ذاتها للتغير والتغيير، وتحمل المسؤوليات والدأب على مواصلة العطاء والإبداع فيه.
هذه الوحدة التي صنعها مؤتمر غسان كنفاني هي الجُنة التي بها نقاوم إمبريالية الثقافة العالمية، متحصنين من الوقوع في حبائلها، ممتلكين العزائم ومعمقين الإحساس بأهمية الوحدة في مواجهة مخططات التفرقة الثقافية. وكل هذا تحقق في مؤتمر عربي واحد أعاد للجسد الثقافي العربي عافيته، وردم شرخ التباعد بين خلاياه، وأكد أنه قادر على الصمود بصلابة، مشرئب العنق صوب مستقبل، فيه الأولوية للثقافة لا للسياسة، والبوصلة موجهة للتوحد لا للانفصال. هذا فضلا عن تحقيق المؤتمر هدفه المباشر وغايته المعلنة وهما، الاحتفاء بالذكرى الخمسين لاستشهاد رمز من رموز الإبداع والشهادة الروائي الخالد غسان كنفاني.
احتفينا في هذا المؤتمر بخمسين عاما خلت من ذاك اليوم الذي فيه استشهد غسان كنفاني مناضلا صلبا وأديبا ملتزما بقضية شعبه وأمته والإنسانية عامة. وخيل إليّ كأنه يعود إلى الحياة ليشاركنا الفرصة الثمينة في اجتماع شملنا، وشعرتُ بضخامة مشروعه الفكري وهو يوحد بيننا، ورأيتُه في ذكراه الخالدة هذه مثل المنارة الشاخصة التي تهدي الثقافة العربية إلى ما يصلح حالها.
كنت قبل مؤتمر غسان متشائمة بحالنا ومقدار تحقيق بعض حاجاتنا، لكن بعده استيقظ الأمل في داخلي، واتصل أمسي بيومي. وعلى الرغم من اختلافاتنا وتباين مشاربنا، فإننا جميعا نتطلع إلى غد تشرق فيه شمس الحياة الأدبية فتنير دروب حياتنا كافة.
غسان كنفاني هو صفحة مهمة ومتميزة من صفحات تاريخنا، صفحة ستظل حاضرة بقوة مهما طال الزمن الذي يمر بعدها وبعدنا؛ صفحة هي فخر ذكرياتنا. خاض غسان غمار الأدب موجها إياه سلاحاً في خدمة قضيته العادلة قضية فلسطين المستلبة، ولذلك أرعب دهاقنة السياسة الصهاينة، وشكّل خطرا عليهم فاستهدفوه. ولم يدروا أنهم باستهدافه سيصنعون لنا نحن العرب ما يشد أزرنا في محننا ويوجه تطلعاتنا وأنه سيكون المحرك الذي يولد فينا العزائم ويلهمنا آمالا كبيرة.
كنت ومعي المؤتمرون جميعا على موعد مع غسان كنفاني، وحين اجتمعنا وجدنا غسان وفلسطين على موعد معنا. إنه ميعاد غسان وفلسطين كوجهين لعملة واحدة. وحين وظّف غسان ملكاته الإبداعية لخدمة فلسطين غمرته فلسطين بالعشق الذي تمثل اعتدادا وفخرا بكتاباته ودواما على استرجاع قصصه ورواياته ومقالاته واستذكار لحظات استشهاده. وبهذا كله يصبح الأمل كبيرا بكل شيء بكل ما يخطر على البال وما لا يخطر أيضا.
لقد كان المؤتمر فرصة للتعرف على فواعل الثقافة العربية من المفكرين والنقاد والروائيين والقصاصين والكتاب والشعراء، كما كان المؤتمر بارقة أمل، رأينا فيه محيا فلسطين عربيا في ملاحته فخفقت له جوانحنا، وهفت إليه أفئدتنا، فتبادلنا المشاعر إثرة وإيثارا، ونحن نرى البطولة والشهادة والإبداع صفات تلتصق بكل فلسطيني يتبنى قضيته، حتى إذا قيل إن فلانا من المؤتمرين فلسطيني قلنا إنه مشروع إبداع وبطولة وشهادة على طريق غسان؛ غسّاني النهج.
قد يكون من الحق عليّ لنفسي أن أعرب عن شديد استئناسي بما جاءت به أيام المؤتمر الثلاثة، من ساعات علمية معرفية عشتها مع ذاك الروائي الاستثنائي (غسان كنفاني) وهو يلهم أقلامنا أن تقول وتجتمع على غير عادتها حول طاولة واحدة. فاكتشفت عندها أن للنقد وظيفة جديدة لم ننتبه لها من قبل وهي وظيفة المقاومة التي تستمد طاقتها من سردية غسان كنفاني ومن فلسطينية الهوى العربي. وجدتُ المؤتمرين معي يؤكدون ويعمقون من أهمية ما ينبغي تأكيده وتعميقه، فحمدت الله أن ما تطلعتُ إليه وتجشمتً من أجله العناء قد أتى أكله اللذيذ وفي أجواء تسر الأصدقاء وتغيض الأعداء. فطوبى لمن استطاع أن يغير ما اعتدنا عليه من قطيعة ثقافية، وهنيئا لمن قاوم ما استحكم على أذهاننا من خيبة أمل بمستقبل ثقافتنا.
كنت قبل مؤتمر غسان متشائمة بحالنا ومقدار تحقيق بعض حاجاتنا، لكن بعده استيقظ الأمل في داخلي، واتصل أمسي بيومي. وعلى الرغم من اختلافاتنا وتباين مشاربنا، فإننا جميعا نتطلع إلى غد تشرق فيه شمس الحياة الأدبية فتنير دروب حياتنا كافة. والحق أن الحال الثقافي العربي وأكاد أجزم ليس سهلا تعويقه لأن له ألف مجد وألف مأثرة، وما أن نستنهض واحدة من تلك المآثر حتى تغدو كافية وفي أي زمان أو مكان، لأن تعيد لحالنا الثقافي أشراقه وقوته، فتبدو القطيعة الثقافية وقتية وطارئة وفي الإمكان تجاوزها. فما أعجب الصدف التي تجعلك تستعيد الإيمان بمسائل تصورت أنها أفلت وانتهت وما عادت فيها أي جذوة. شعرتُ خلال الساعات التي قضيتها في المؤتمر أني في تفاعل وتواصل ليس فيه غربة أو انعزال، لقد أحسست بأن للثقافة العربية روحا تشرق في لحظة من التصافي، وقد توافقت وتشابهت هوى ومزاجا ومحنة. وهنا استذكر قولا للعقاد يصف فيه حال المبدع العربي وقد وجد في اختلافه مع غيره تآلفا، وفي تباعده قربا، وفي تخاصمه محبة، قائلا: «فليس المؤلف المطبوع بحاجة إلى الثناء ولا إلى النقد، لكنه بحاجة إلى الألفة والفهم أو هو على الأصح في حاجة إلى المجاوبة والمجاذبة من النفوس التي تفهم طبيعته فهم وفاق أو فهم خلاف» (ساعات بين الكتب).
هكذا ذهبتُ إلى مؤتمر غسان كنفاني للرواية العربية محملة بالأسى، وعدتُ محملة بالأمل؛ فكنت كمن كان يبحث عن ضالته فوجدها، أنظر حولي فأرى حاضرا موصولا بماض بعيد. وأطالع ذاتي فأرى أفراحا وأتراحا وآفاقا وآمادا، فيها حضرت فلسطين على منصة مؤتمر غسان كرواية وفي كنفها أراقب عن كثب أحداثها وظواهرها وبدائعها وأفكارها.
كاتبة عراقية