مقالات

  Cobra Effectتأثير الكوبرا  بقلم محمود الصباغ

   تأثير الكوبرا: حين تتفوق الجرذان على الحداثة الاستعمارية

  Cobra Effectتأثير الكوبرا     ·

بقلم محمود الصباغ

تأثير الكوبرا: حين تتفوق الجرذان على الحداثة الاستعمارية

يعود مصطلح تأثير الكوبرا Cobra Effect إلى الاقتصادي الألماني هورست سيبرت في كتابه بعنوان: (تأثير الكوبرا. كيفية تجنب الأخطاء في السياسة الاقتصادية Der Kobra-Effekt. Wie man Irrwege der Wirtschaftspolitik vermeidet) (2001)، الذي يشرح كيف تتسبب الحوافز غير المدروسة في عواقب غير محمودة، وإن كانت غير مقصودة، فتؤثر بصورة شيئة على الواقع. وأطلق سيبرت تسمية “تأثير الكوبرا” على هذه النتائج قياساً إلى حادثة شائعة، لا يعرف مصدرها، تعود للقرن التاسع، في فترة الاستعمار البريطاني للهند، وتقول الحكاية أن السلطات الاستعمارية استشعرت كبير الخطر بسبب ازدياد عدد أفاعي الكوبرا السامة في البلاد، فكان الحل باقتراح تقديم مكافأة سخية لمن يحضر أفعى كوبرا مقتولة، تأسيساً على مبدأ يرى أن الناس تستجيب للحوافز (سلباً وإيجاباً بطبيعة الحال، وتتصرف وفق إملاءات الربح/الخسارة الناتجة عن هذه الحوافز)، فبدأ السكان بمطاردة الأفاعي وقتلها طمعاً بالمكافأة، وسارت الأمور في البداية على أحسن وجه، ولكن [دائماً هناك ولكن] أدت الحوافز المالية إلى نتائح غير متوقعة على الإطلاق، إذ بدأ عدد من السكان في تربية أفاعي الكوبرا ومكاثرتها للفوز بالمكافأة بطريقة سهلة، بدلاً من عناء البحث عنها في جحورها والتعرض ربما للدغاتها السامة ( تأسيساً أيضاً على قاعدة تجارية معروفة وهي أن “البائع” يعرف حقاُ عن بضاعته أكثر مما يعرفه “الشاري”)، وبعد أن اكتشفت السلطات البريطانية هذه الحيلة اضطرت لإلغاء المكافأة، فما كان من المواطنين إلا أن أطلقوا سراح ما الأفاعي لعدم حاجتهم إليها؟ فزاد عددها، بواقع مخيب لخطط لسلطات، فبدلاً من القضاء عليها، هاي هي الآن تجوب الشوارع والطرقات دون رادع، فضلاً عن تكلفة المشروع أصلاً قبل إلغائه.

وبات المصطلح يستخدم اليوم، كما شرحه سيبرت في كتابه، لوصف النتائج غير المتوقعة أو السلبية التي يمكن أن تنشأ نتيجة لحل مشكلة بطريقة خاطئة، ودخل في العديد من المجالات مثل الاقتصاد والسياسة والبيئة والتدبير المنزلي وغيرها لوصف الطريقة التي تتفاقم فيها المشاكل بدلاً من حلها نتيجة لاستخدام حلول تبدو في البداية فعالة ولكنها على أرض الواقع تظهر أنها حلولاً سطحية لم تتعامل مع “الواقع” كما هو مما أدى إلى نتائج عكسية غير متوقعة وغير مرغوبة مخالفة تصورات الحلول المفترضة.

وإذا كان المثال البريطاني غير مثبت “من الناحية التاريخية” ، فإن المؤرخ “مايكل فان” يطرح مثالاً “تاريخياً” عن واقعة مشابهة حصلت في الفترة عينها تقريباً وفي مكان غير بعيد عن الهند: فيتنام “الفرنسية”. فيقول أن حادثة الكوبرا الهندية لا يمكن إثباتها ولكن حادثة الفئران الفيتنامية مثبتة، لذلك يجب تغيير المصطلح ليصبح تأثير الفئران*

في ذروة الإمبراطورية الفرنسية وانسياحها في أرباع الأرض في سياق “الجمهورية الثالثة” (1870-1940)، كان لدور الإداريين الاستعماريين والتكنوقراط والمهندسين الدور الأكبر في بناء رموز الحداثة والعظمة للمشروع الاستعماري الفرنسي عبر تشييد العديد من المظاهر العمرانية والبنى التحتية لإظهار إنجازات la plus grande France وقد أصبحت “هانوي” -عاصمة الهند الصينية- رمزاً هاماً من رموز المشروع الاستعماري الفرنسي بما يحمل هذا من مجازات “عبء الرجل الأبيض”، فابتدأ العمل ببناء “الحي الأوروبي” في هانوي للمستعمِرين البيض بشوارعه الفسيحة التي تحفها من الجوانب الأشجار الظليلة دائمة الخضرة والبيوت الواسعة (الفيلات) وشبكة صرف صحي تعد فخر الإدارة الاستعمارية آنذاك، وكانت جزء من نظام حضري كبير تحدده الملامح “العرقية” لمنجزات الحداثة، مما يعني حرمان السكان الأصليين من هذه البركة. فكانت مجاري الصرف الصحي هناك تعود مياهها إلى شوارع الأحياء الفيتنامية بسبب الأمطار الموسمية بعكس ما هو الحال في الحي الأوروبي.

مع نهاية القرن التاسع توصل العالم الكسندر يرسين إلى تعيين دور الجرذان والبراغيث كنواقل للطاعون، وهكذا تبدل حال كل شيء في مدينة مثل هانوي تعج بآلاف وربما عشرات الآلاف من الجرذان، نظر الفرنسيون إلى الأمر من زاوية أخرى، فقد اعتبروا افتقار الفيتناميين للحداثة عاملاً هاماً في انتشار المرض، أي أن الوباء جزء أصيل من منظومة التخلف المحلية، (وهذا يعني صحة وضرورة المهمة الحضارية الفرنسية )، ومع تكاثر عدد الجرذان، تحولت المدينة إلى مرتع خصب ومثالي فنمت بأسرع مما هو متوقع وباتت تشكل خطراً وحالة من الفوضى التي تكاد تخرج عن السيطرة ، فقررت السلطات منح مكافأة لمن يحضر ذيل جرذ، فاندفع الناس بحماسة لصيد الجرذان للحصول على المكافأة، ( رأت السلطات أن استلامها للجرذ المقتول سوف يخلق الكثير من الأعباء على البلدية وعلى السلطات الصحية)، بدأت الأمور تسير بصورة حسنة ، على أن لاحظت السلطات الاستعمارية انتشار الجرذان “عديمة الذيل” في الأرجاء، وهذا يعني أن سكان هانوي كانوا يقطعون ذيل الجرذ ويطلقون سراحه فيعود هذا يتزاوج ويتكاثر دون عائق، ليس هذا فحسب، بل قام البعض بتربية الجرذان للحول على ذيولها وتسلميها للسطات الفرنسية من أجل المكافأة، في النهاية ، فشلت الحملة، ويبدو أن القلق الرئيسي للإدارة الاستعمارية من تفشي المرض كان في محله، إذ ضرب الطاعون مدينة هانوي في العام 1903 مما شكل “صدمة” لـ “الحداثة الفرنسية”

…* للمزيد انظر،

Michael G. Vann Rats, Rice, and Race: The Great Hanoi Rat Massacre, an Episode in French Colonial History

French Colonial History. Michigan State University Press, Volume 4, 2003, pp. 191-203

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب